فصل: القاعدة السادسة: العادة محكمة.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ***


قاعدة‏:‏ الأصل العدم

فيها فروع‏:‏

منها‏:‏ القول قول نافي الوطء غالبا‏;‏ لأن الأصل العدم‏.‏

ومنها‏:‏ القول قول عامل القراض في قوله‏:‏ لم أربح‏;‏ لأن الأصل عدم الربح‏,‏ أو لم أربح إلا كذا لأن الأصل عدم الزائد‏,‏ وفي قوله‏:‏ لم تنهني عن شراء كذا‏;‏ لأن الأصل عدم النهي‏;‏ ولأنه لو كان كما يزعمه المالك لكان خائنا‏,‏ والأصل عدم الخيانة‏,‏ وفي قدر رأس المال لأن الأصل عدم دفع الزيادة‏,‏ وفي قوله بعد التلف‏:‏ أخذت المال قراضا‏,‏ وقال المالك قرضا كما قاله البغوي وابن الصلاح في فتاويهما‏,‏ لأنهما اتفقا على جواز التصرف‏,‏ والأصل عدم الضمان‏.‏

ولو قال المالك‏:‏ قراضا وقال الآخر قرضا‏,‏ وذلك عند بقاء المال وربحه‏,‏ فلم أر فيها نقلا‏,‏ والظاهر أن القول قول مدعي القرض أيضا لأمور‏:‏ منها أنه أغلظ عليه لأنه بصدد أن يتلف المال أو يخسر‏,‏ ومنها أن اليد له في المال والربح‏,‏ ومنها‏:‏ أنه قادر على جعل الربح له‏,‏ بقوله‏:‏ اشتريت هذا لي‏,‏ فإنه يكون القول قوله‏,‏ ولو اتفقا على أن المال قراض‏,‏ فدعواه أن المال قرض يستلزم دعواه أنه اشتراه له‏,‏ فيكون ربحه له‏.‏ ومنها‏:‏ لو ثبت عليه دين بإقرار أو بينة‏,‏ فادعى الأداء والإبراء‏,‏ فالقول قول غريمه‏;‏ لأن الأصل عدم ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ لو اختلفا في قدم العيب‏,‏ فأنكره البائع‏,‏ فالقول قوله‏,‏ واختلف في تعليله فقيل‏:‏ لأن الأصل عدمه في يد البائع وقيل‏:‏ لأن الأصل لزوم العقد‏,‏ وبهذا التعليل جزم الرافعي والنووي‏.‏

قال الماوردي‏:‏ وينبني على الخلاف ما لو ادعى البائع قدمه والمشتري حدوثه ويتصور ذلك‏:‏ بأن يبيعه بشرط البراءة‏,‏ فيدعي المشتري الحدوث قبل القبض حتى يرد به لأنه لا يبرأ منه‏,‏ فإن عللنا بكون الأصل عدمه في يد البائع‏,‏ صدقنا المشتري‏;‏ لأن ذلك المعنى يقتضي الرد هنا‏,‏ وإن عللنا بكون الأصل اللزوم صدقنا البائع‏.‏ قال الأسنوي ومقتضى‏,‏ ذلك تصحيح تصديق البائع‏.‏

 ومنها‏:‏ اختلف الجاني والولي في مضي زمن يمكن فيه الاندمال‏,‏ فالمصدق الجاني‏;‏ لأن الأصل عدم المضي‏.‏

ومنها‏:‏ أكل طعام غيره‏,‏ وقال‏:‏ كنت أبحته لي‏,‏ وأنكر المالك‏,‏ صدق المالك‏;‏ لأن الأصل عدم الإباحة‏.‏ ومنها‏:‏ سئل النووي عن مسلم له ابن ماتت أمه‏,‏ فاسترضع له يهودية لها ولد يهودي ثم غاب الأب مدة وحضر‏,‏ وقد ماتت اليهودية فلم يعرف ابنه من ابنها وليس لليهودية من يعرف ولدها‏,‏ ولا قافة هناك‏.‏

فأجاب‏:‏ يبقى الولدان موقوفين حتى يبين الحال ببينة أو قافة أو يبلغا فينتسبان انتسابا مختلفا وفي الحال يوضعان في يد المسلم‏,‏ فإن بلغا ولم توجد بينة ولا قافة ولا انتسبا‏,‏ دام الوقف فيما يرجع إلى النسب‏.‏ ويتلطف بهما إلى أن يسلما جميعا‏,‏ فإن أصرا على الامتناع من الإسلام لم يكرها عليه ولا يطالب واحد منهما بالصلاة ولا غيرها من أحكام الإسلام‏;‏ لأن الأصل عدم إلزامهما به‏,‏ وشككنا في الوجوب على كل واحد منهما بعينه‏,‏ وهما كرجلين سمع من أحدهما صوت حدث وتناكراه لا يلزم واحدا منهما الوضوء‏,‏ بل يحكم بصحة صلاتهما في الظاهر‏.‏ وإن كانت إحداهما باطلة في نفس الأمر‏,‏ وكما لو قال رجل‏:‏ إن كان هذا الطائر غرابا فامرأتي طالق فقال آخر‏:‏ إن لم يكن فامرأتي طالق‏,‏ فطار ولم يعرف فإنه يباح لكل واحد منهما في الظاهر الاستمتاع بزوجته للبقاء على الأصل‏,‏ وأما نفقتهما ومؤنتهما فإن كان لكل منهما مال كانت فيه‏,‏ وإلا وجبت على أب المسلم نفقة ابن بشرطه وتجب نفقة آخر‏,‏ وهو اليهودي في بيت المال بشرط كونه ذميا‏,‏ وشرطه‏:‏ أن لا يكون هناك أحد من أصوله ممن تلزمه نفقة القريب‏,‏ وإن مات من أقارب الكافر أحد‏,‏ وقف نصيبه حتى يتبين الحال أو يقع اصطلاح‏,‏ وكذا إن مات من أقارب المسلم أحد‏.‏ وإن مات الولدان أو أحدهما وقف ماله أيضا‏,‏ وإن مات أحدهما قبل البلوغ غسل وصلي عليه ودفن بين مقابر المسلمين واليهود‏,‏ أو بعد البلوغ والامتناع من الإسلام جاز غسله دون الصلاة عليه‏;‏ لأنه يهودي أو مرتد‏,‏ ولا يصح نكاح واحد منهما‏;‏ لأنه يحتمل أنه يهودي أو مرتد فلا يصح نكاحه‏,‏ كالخنثى المشكل‏.‏

قاعدة‏:‏ الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن‏.‏

ومن فروعها‏:‏

رأى في ثوبه منيا ولم يذكر احتلاما لزمه الغسل على الصحيح‏.‏ قال في الأم‏:‏ وتجب إعادة كل صلاة صلاها من آخر نومة نامها فيه‏.‏

ومنها‏:‏ توضأ من بئر أياما وصلى ثم وجد فيها فأرة‏,‏ لم يلزمه قضاء إلا ما تيقن أنه صلاه بالنجاسة‏.‏ ومنها‏:‏ ضرب بطن حامل فانفصل الولد حيا وبقي زمانا بلا ألم ثم مات‏,‏ فلا ضمان‏;‏ لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر‏.‏

ومنها‏:‏ فتح قفصا عن طائر فطار في الحال ضمنه‏,‏ وإن وقف ثم طار فلا إحالة على اختيار الطائر‏.‏ ومنها‏:‏ ابتاع عبدا ثم ظهر أنه كان مريضا ومات‏:‏ فلا رجوع له في الأصح‏;‏ لأن المرض يتزايد فيحصل الموت بالزائد ولا يتحقق إضافته إلى السابق‏.‏

ومنها‏:‏ تزوج أمة ثم اشتراها وأتت بولد‏,‏ يحتمل أن يكون من ملك اليمين‏,‏ وأن يكون من ملك النكاح‏,‏ صارت أم ولد في الأصح‏,‏ وقيل‏:‏ لا لاحتمال كونه من النكاح‏.‏

وخرج عن ذلك صور‏:‏

منها‏:‏ لو كان المرض مخوفا‏,‏ فتبرع ثم قتله إنسان أو سقط من سطح فمات أو غرق حسب تبرعه من الثلث‏,‏ كما لو مات بذلك المرض‏.‏

ومنها‏:‏ لو ضرب يده فتورمت وسقطت بعد أيام‏,‏ وجب القصاص‏.‏

قلت‏:‏ هذه لا تستثنى‏;‏ لأن باب القصاص كله كذلك‏,‏ لو ضربه أو جرحه وتألم إلى الموت وجب القصاص‏.‏

  قاعدة‏:‏ الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم‏.‏

هذا مذهبنا‏,‏ وعند أبي حنيفة‏:‏ الأصل فيها التحريم حتى يدل الدليل على الإباحة‏,‏ ويظهر أثر الخلاف في المسكوت عنه‏,‏

ويعضد الأول قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو‏,‏ فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا‏"‏‏,‏ أخرجه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء بسند حسن‏.‏ وروى الطبراني أيضا من حديث أبي ثعلبة‏:‏ ‏"‏إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها‏,‏ ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها‏,‏ وحد حدودا فلا تعتدوها‏,‏ وسكت عن أشياء من غير نسيان‏,‏ فلا تبحثوا عنها‏"‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمة لكم فاقبلوها‏"‏‏.‏ وروى الترمذي وابن ماجه من حديث سلمان‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجبن والسمن والفراء فقال‏:‏ ‏"‏الحلال ما أحل الله في كتابه‏,‏ والحرام ما حرم الله في كتابه‏,‏ وما سكت عنه فهو مما عفا عنه‏"‏ وللحديث طرق أخرى‏.‏

ويتخرج عن هذه كثير من المسائل المشكل حالها‏:‏

منها‏:‏ الحيوان المشكل أمره‏,‏ وفيه وجهان‏:‏ أصحهما الحل كما قال الرافعي

ومنها‏:‏ النبات المجهول تسميته قال المتولي يحرم أكله وخالفه النووي وقال الأقرب الموافق للمحكي عن الشافعي في التي قبلها الحل‏.‏

ومنها‏:‏ إذا لم يعرف حال النهر هل هو مباح أو مملوك‏؟‏ هل يجري عليه حكم الإباحة أو الملك‏؟‏ حكى الماوردي فيه وجهين مبنيين على أن الأصل الإباحة أو الحظر‏.‏

ومنها‏:‏ لو دخل حمام برجه وشك هل هو مباح أو مملوك‏؟‏ فهو أولى به وله التصرف فيه‏,‏ جزم به في أصل الروضة لأن الأصل الإباحة‏.‏

ومنها‏:‏ لو شك في كبر الضبة فالأصل الإباحة‏,‏ ذكره في شرح المهذب‏.‏

ومنها‏:‏ مسألة الزرافة‏,‏ قال السبكي‏:‏ المختار أكلها‏:‏ لأن الأصل الإباحة‏,‏ وليس لها ناب كاسر‏,‏ فلا تشملها أدلة التحريم‏,‏ وأكثر الأصحاب لم يتعرضوا لها أصلا لا بحل ولا بحرمة‏,‏ وصرح بحلها في فتاوى القاضي الحسين والغزالي‏,‏ وتتمة القول وفروع ابن القطان وهو المنقول عن نص الإمام أحمد وجزم الشيخ في التنبيه بتحريمها‏,‏ ونقل في شرح المهذب الاتفاق عليه‏,‏ وبه قال أبو الخطاب من الحنابلة ولم يذكرها أحد من المالكية والحنفية وقواعدهم تقتضي حلها‏.‏

قاعدة‏:‏ الأصل في الأبضاع التحريم‏.‏

فإذا تقابل في المرأة حل وحرمة‏,‏ غلبت الحرمة‏,‏ ولهذا امتنع الاجتهاد فيما إذا اختلطت محرمة بنسوة قرية محصورات لأنه ليس أصلهن الإباحة حتى يتأيد الاجتهاد باستصحابه‏,‏ وإنما جاز النكاح في صورة غير المحصورات‏,‏ رخصة من الله كما صرح به الخطابي لئلا ينسد باب النكاح عليه‏.‏

ومن فروع هذه القاعدة‏:‏

ما ذكره الغزالي في الإحياء أنه لو وكل شخصا في شراء جارية ووصفها‏,‏ فاشترى الوكيل جارية بالصفة‏,‏ ومات قبل أن يسلمها للموكل‏.‏ لم يحل للموكل وطؤها لاحتمال أنه اشتراها لنفسه‏,‏ وإن كان شراء الوكيل الجارية بالصفات المذكورة ظاهرا في الحل ولكن الأصل التحريم‏,‏ حتى يتيقن سبب الحل‏.‏

ومنها‏:‏ ما ذكره الشيخ أبو محمد في التبصرة‏:‏ أن وطء السراري اللائي يجلبن اليوم من الروم والهند والترك حرام‏,‏ إلا أن ينتصب في المغانم من جهة الإمام من يحسن قسمتها فيقسمها من غير حيف ولا ظلم‏,‏ أو تحصل قسمة من محكم‏,‏ أو تزوج بعد العتق بإذن القاضي والمعتق‏,‏ والاحتياط اجتنابهن مملوكات وحرائر‏.‏

قال السبكي في الحلبيات‏:‏ ولا شك أن الذي قاله الورع وأما الحكم اللازم‏:‏ فالجارية إما أن يعلم حالها أو يجهل‏,‏ فإن جهل فالرجوع في ظاهر الشرع إلى اليد‏,‏ إن كانت صغيرة وإلى اليد وإقرارها‏,‏ إن كانت كبيرة‏,‏ واليد حجة شرعية‏,‏ كالإقرار‏,‏ وإن علم فهي أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ من تحقق إسلامها في بلادها‏,‏ وأنه لم يجر عليها رق قبل ذلك‏,‏ فهذه لا تحل بوجه من الوجوه‏,‏ إلا بنكاح بشروطه‏.‏

الثاني‏:‏ كافرة ممن لهم ذمة وعهد فكذلك‏.‏

الثالث‏:‏ كافرة من أهل الحرب‏,‏ مملوكة لكافر حربي أو غيره‏,‏ فباعها فهي حلال لمشتريها‏.‏

الرابع‏:‏ كافرة من أهل الحرب‏,‏ قهرها وقهر سيدها كافر آخر‏,‏ فإنه يملكها كلها ويبيعها لمن يشاء‏,‏ وتحل لمشتريها وهذان النوعان‏:‏ الحل فيهما قطعي وليس محل الورع‏,‏ كما أن النوعين الأولين الحرمة فيهما قطعية‏.‏

النوع الخامس‏:‏ كافرة من أهل الحرب‏,‏ لم يجر عليها رق‏,‏ وأخذها مسلم‏,‏ فهذا أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ أن يأخذها جيش من جيوش المسلمين بإيجاف خيل أو ركاب‏,‏ فهي غنيمة أربعة أخماسها للغانمين‏,‏ وخمسها لأهل الخمس‏,‏ وهذا لا خلاف فيه‏,‏ وغلط الشيخ تاج الدين الفزاري‏,‏ فقال‏:‏ إن حكم الفيء والغنيمة راجع إلى رأي الإمام يفعل فيه ما يراه مصلحة‏,‏ وصنف في ذلك كراسة سماها ‏"‏الرخصة العميمة في أحكام الغنيمة‏"‏ وانتدب له الشيخ محيي الدين النووي‏,‏ فرد عليه في كراسة أجاد فيها‏,‏ والصواب معه قطعا‏,‏ وقد تتبعت غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه‏,‏ فكل ما حصل فيه غنيمة أو فيء قسم وخمس‏,‏ وكذلك غنائم بدر‏.‏ ومن تتبع السير وجد ذلك مفصلا‏,‏ ولو قال الإمام‏:‏ من أخذ شيئا فهو له‏,‏ لم يصح‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن ينجلي الكفار عنها بغير إيجاب من المسلمين‏,‏ أو يموت عنها من لا وارث له من أهل الذمة‏,‏ وما أشبه ذلك‏,‏ فهذه فيء يصرف لأهله‏,‏ فالجارية التي توجد من غنيمة أو فيء‏,‏ لا تحل حتى تتملك من كل من يملكها من أهل الغنيمة أو الفيء‏,‏ أو من المتولي عليهم‏,‏ أو الوكيل عنهم‏,‏ أو ممن انتقل الملك إليه من جهتهم‏,‏ ولو بقي فيها قيراط لا تحل حتى يتملكه ممن هو له‏.‏

القسم الثالث‏:‏ أن يغزو واحد‏,‏ أو اثنان بإذن الإمام فما حصل لهما من الغنيمة يختصان بأربعة أخماسها والخمس لأهله‏.‏ هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء فلا فرق بين أن تكون السرية قليلة أو كثيرة‏.‏

الرابع‏:‏ أن يغزو واحد‏,‏ أو اثنان أو أكثر بغير إذن الإمام‏,‏ فالحكم كذلك عندنا وعند جمهور العلماء‏.‏ الخامس‏:‏ أن يكون الواحد أو الاثنان ونحوهما ليسوا على صورة الغزاة‏,‏ بل متلصصين فقد ذكر الأصحاب‏:‏ أنهم إذا دخلوا يخمس ما أخذوه على الصحيح‏,‏ وعللوه بأنهم غرروا بأنفسهم فكان كالقتال وهذا التعليل يقتضي أنه لم ينقطع في الجملة عن معنى الغزو‏.‏

والإمام في موضع حكى هذا وضعفه‏,‏ وقال‏:‏ إن المشهور عدم التخميس وفي موضع ادعى إجماع الأصحاب على أنه يختص به‏,‏ ولا يخمس وجعل مال الكفار على ثلاثة أقسام‏:‏ غنيمة‏,‏ وفيء‏,‏ وغيرهما كالسرقة‏,‏ فيتملكه من يأخذه‏,‏ قياسا على المباحات ووافقه الغزالي على ذلك وهو مذهب أبي حنيفة وقال البغوي‏:‏ إن الواحد إذا أخذ من حربي شيئا على جهة السوم فجحده أو هرب به‏,‏ اختص به‏,‏ وفيما قاله نظر يحتمل أن يقال‏:‏ يجب رده‏;‏ لأنه كان ائتمنه فإن صح ما قاله البغوي وافق الغزالي بطريق الأولى‏.‏ وقال أبو إسحاق‏:‏ إن المأخوذ على جهة الاختلاس فيء وقال الماوردي غنيمة‏.‏ وما قاله الماوردي موافق لكلام الأكثرين‏,‏ وما قاله أبو إسحاق‏:‏ إن أراد بالفيء الغنيمة حصل الوفاق‏,‏ وإلا فلا وزعم أنه ينزع من المختلس‏,‏ ويعطى جميعه لغيره من المقاتلة وأهل الخمس فبعيد‏.‏

فهذا القسم الخامس من النوع الخامس‏,‏ قد اشتمل على صور‏,‏ ولم يفردها الأصحاب‏.‏ بل ذكروها مدرجة مع القسم الرابع‏,‏ والجارية المأخوذة على هذه الصورة فيها هذا الخلاف‏,‏ واجتنابها محل الورع انتهى‏.‏

قاعدة‏:‏ الأصل في الكلام الحقيقة‏.‏

وفي ذلك فروع‏:‏

منها‏:‏ إذا وقف على أولاده‏,‏ أو أوصى لهم‏,‏ لا يدخل في ذلك ولد الولد في الأصح لأن اسم الولد حقيقة في ولد الصلب‏,‏ وفي وجه نعم‏,‏ حملا له على الحقيقة والمجاز‏.‏

ومنها‏:‏ لو حلف لا يبيع‏,‏ أو لا يشتري‏,‏ أولا يضرب عبده فوكل في ذلك‏,‏ لم يحنث حملا للفظ على حقيقته وفي قول‏:‏ إن كان ممن لا يتولاه بنفسه‏,‏ كالسلطان‏,‏ أو كان المحلوف عليه مما لا يعتاد الحالف فعله بنفسه‏,‏ كالبناء ونحوه حنث إذا أمر بفعله‏.‏

ومنها‏:‏ لو قال‏:‏ وقفت على حفاظ القرآن لم يدخل فيه من كان حافظا ونسيه‏,‏ لأنه لا يطلق عليه حافظ إلا مجازا باعتبار ما كان نقله الأسنوي عن البحر‏.‏

ومنها‏:‏ وقف على ورثة زيد وهو حي‏,‏ لم يصح لأن الحي لا ورثة له‏.‏ قاله في البحر أيضا‏:‏ قال الأسنوي‏:‏ ولو قيل‏:‏ يصح‏,‏ حملا على المجاز‏:‏ أي ورثته لو مات لكان محتملا‏.‏

ومنها‏:‏ لو حلف لا يبيع أو لا يشتري‏,‏ أو لا يستأجر‏,‏ أو نحو ذلك لم يحنث إلا بالصحيح‏,‏ دون الفاسد‏,‏ بناء على أن الحقائق الشرعية إنما تتعلق بالصحيح‏,‏ دون الفاسد‏.‏

ومنها‏:‏ لو قال‏:‏ هذه الدار لزيد كان إقرارا له بالملك‏,‏ حتى لو قال أردت أنها مسكنه لم يسمع‏.‏

ومنها‏:‏ لو حلف لا يدخل دار زيد لم يحنث إلا بدخول ما يملكها‏,‏ دون ما يسكنها بإعارة أو إجارة‏;‏ لأن إضافتها إليه مجاز‏,‏ إلا أن يريد مسكنه‏,‏ ولو حلف لا يدخل مسكنه لم يحنث بدخول داره التي هي ملكه ولا يسكنها في الأصح‏;‏ لأنها ليست مسكنه حقيقة‏.‏

ومنها‏:‏ لو حلف لا يأكل من هذه الشاة‏,‏ حنث بلحمها‏,‏ لأنه الحقيقة‏,‏ دون لبنها ونتاجها لأنه مجاز‏.‏ نعم‏,‏ إن هجرت الحقيقة تعين العمل بالمجاز الراجح‏,‏ كأن حلف لا يأكل من هذه الشجرة‏,‏ فإنه يحنث بثمرها‏,‏ وإن كان مجازا دون ورقها وأغصانها وإن كان حقيقة‏.‏

تنبيه قد يشكل على هذا الأصل ما لو حلف لا يصلي‏,‏ فالأصح في أصل الروضة أنه يحنث بالتحرم وفي وجه‏:‏ لا يحنث إلا بالفراغ‏;‏ لأنها قد تفسد قبل تمامها‏,‏ فلا يكون مصليا حقيقة وهذا هو قياس القاعدة‏,‏ وفي ثالث‏:‏ لا يحنث حتى يركع‏;‏ لأنه حينئذ يكون أتى بالمعظم‏,‏ فيقوم مقام الجميع والرافعي حكى الأوجه في الشرح‏,‏ ولم يصحح شيئا‏.‏ ذكر تعارض الأصل والظاهر‏.‏

قال النووي في شرح المهذب‏:‏ ذكر جماعة من متأخري الخراسانيين‏:‏ أن كل مسألة تعارض فيها أصل وظاهر أو أصلان ففيها قولان‏,‏ وهذا الإطلاق ليس على ظاهره فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظاهر بلا خلاف‏,‏ كشهادة عدلين‏,‏ فإنها تفيد الظن‏,‏ ويعمل بها بالإجماع‏,‏ ولا ينظر إلى أصل براءة الذمة‏,‏ ومسألة بول الظبية وأشباهها‏,‏ ومسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف‏.‏ كمن ظن حدثا‏,‏ أو طلاقا‏,‏ أو عتقا‏,‏ أو صلى ثلاثا أم أربعا فإنه يعمل فيها بالأصل بلا خلاف‏,‏

قال‏:‏ والصواب في الضابط ما حرره ابن الصلاح فقال‏:‏ إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر‏,‏ وجب النظر في الترجيح‏,‏ كما في تعارض الدليلين‏,‏ فإن تردد في الراجح فهي مسائل القولين‏,‏ وإن ترجح دليل الظاهر حكم به بلا خلاف‏,‏ وإن ترجح دليل أصلي حكم به بلا خلاف انتهى‏.‏

فالأقسام حينئذ أربعة‏:‏

الأول‏:‏ ما يرجح فيه الأصل جزما‏,‏ ومن أمثلته جميع ما تقدم من الفروع وضابطه أن يعارضه احتمال مجرد‏.‏

الثاني‏:‏ ما ترجح فيه الظاهر جزما وضابطه‏:‏ أن يستند إلى سبب منصوب شرعا‏,‏ كالشهادة تعارض الأصل‏,‏ والرواية‏,‏ واليد في الدعوى‏,‏ وإخبار الثقة بدخول الوقت أو بنجاسة الماء‏,‏ وإخبارها بالحيض‏,‏ وانقضاء الأقراء‏,‏ أو معروف عادة‏,‏ كأرض على شط نهر الظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء‏,‏ فلا يجوز استئجارها‏,‏ وجوز الرافعي تخريجه على تقابل الأصل والظاهر‏.‏ ومثل الزركشي لذلك باستعمال السرجين في أواني الفخار‏,‏ فيحكم بالنجاسة قطعا‏,‏ ونقله عن الماوردي‏,‏ وبالماء الهارب من الحمام لاطراد العادة بالبول فيه أو يكون معه ما يعتضد به كمسألة بول الصبية‏.‏

ومنه‏:‏ لو أخذ المحرم بيض دجاجة وأحضنها صيدا ففسد بيضه‏,‏ ضمنه لأن الظاهر أن الفساد نشأ من ضم بيض الدجاج إلى بيضه‏,‏ ولم يحك الرافعي فيه خلافا‏.‏

الثالث‏:‏ ما يرجح فيه الأصل على الأصح وضابطه‏:‏ أن يستند الاحتمال إلى سبب ضعيف وأمثلته لا تكاد تحصر‏.‏

منها‏:‏ الشيء الذي لا يتيقن نجاسته‏,‏ ولكن الغالب فيه النجاسة‏,‏ كأواني وثياب مدمني الخمر‏,‏ والقصابين والكفار المتدينين بها كالمجوس‏,‏ ومن ظهر اختلاطه بالنجاسة وعدم احترازه منها‏,‏ مسلما كان أو كافرا‏,‏ كما في شرح المهذب عن الإمام‏,‏ وطين الشارع والمقابر المنبوشة حيث لا تتيقن‏.‏ والمعنى بها كما قال الإمام وغيره‏:‏ التي جرى النبش في أطرافها والغالب على الظن انتشار النجاسة فيها وفي جميع ذلك قولان‏,‏ أصحهما الحكم بالطهارة استصحابا للأصل‏.‏

ومن ذلك‏:‏ ما لو أدخل الكلب رأسه في الإناء‏,‏ وأخرجه وفمه رطب‏,‏ ولم يعلم ولوغه‏,‏ والأصح أنه لا يحكم بنجاسة الإناء‏,‏ فإن أخرجه يابسا‏,‏ فطاهر قطعا‏.‏

ومن ذلك‏:‏ لو سقط في بئر فأرة‏,‏ وأخذ دلو قبل أن ينزح إلى الحد المعتبر‏,‏ وغلب على الظن أنه لا يخلو من شعر‏,‏ ولم ير‏,‏ ففيه القولان‏.‏ والأظهر الطهارة‏.‏

ومنها‏:‏ إذا تنحنح الإمام وظهر منه حرفان فهل يلزم المأموم المفارقة أم لا للظاهر الغالب المقتضي لبطلان الصلاة‏,‏ أولا‏,‏ لأن الأصل بقاء صلاته‏,‏ ولعله معذور في التنحنح‏,‏ فلا يزال الأصل إلا بيقين‏؟‏ قولان أصحهما‏:‏ الثاني‏.‏

ومنها‏:‏ لو امتشط المحرم فانفصلت من لحيته شعرات‏,‏ ففيه وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ لا فدية‏;‏ لأن النتف لم يتحقق‏,‏ والأصل براءة الذمة‏.‏ والثاني‏:‏ يجب لأن المشط سبب ظاهر‏,‏ فيضاف إليه‏,‏ كإضافة الإجهاض إلى الضرب‏.‏

ومنها‏:‏ الدم الذي تراه الحامل‏,‏ هل هو حيض‏؟‏ قولان‏,‏ أصحهما‏:‏ نعم‏;‏ لأن الأمر متردد بين كونه دم علة‏,‏ أو دم جبلة‏,‏ والأصل السلامة‏.‏ والثاني‏:‏ لا‏;‏ لأن الغالب في الحامل عدم الحيض‏.‏

ومنها‏:‏ لو قذف مجهولا وادعى رقه‏,‏ فقولان‏,‏ أصحهما‏:‏ أن القول قول القاذف‏,‏ لأن الأصل براءة ذمته والثاني‏:‏ قول المقذوف‏;‏ لأن الظاهر الحرية‏,‏ فإنها الغالب في الناس‏.‏

ومنها‏:‏ لو جرت خلوة بين الزوجين‏,‏ وادعت الإصابة فقولان أصحهما‏:‏ تصديق المنكر‏;‏ لأن الأصل علمها‏.‏ والثاني‏:‏ تصديق مدعيها‏;‏ لأن الظاهر من الخلوة الإصابة غالبا‏.‏

ومنها‏:‏ لو اختلف الزوجان الوثنيان قبل الدخول فقال الزوج‏:‏ أسلمنا معا‏,‏ فالنكاح باق وأنكرت‏,‏ فالقول قوله في الأظهر‏,‏ لأن الأصل بقاء النكاح‏,‏ والثاني قولها لأن التساوي في الإسلام نادر فالظاهر خلافه‏.‏

ومنها‏:‏ دعوى المديون لا في مقابلة مال‏,‏ الإعسار‏,‏ فيه وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ القول قوله‏;‏ لأن الأصل العدم‏,‏ والثاني‏:‏ لا‏;‏ لأن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا‏.‏

ومنها‏:‏ إذا ادعى الغاصب عيبا خلقيا في المغصوب‏,‏ كقوله‏:‏ ولد أكمه أو أعرج أو فاقد اليد‏,‏ فوجهان أصحهما‏:‏ القول قوله‏;‏ لأن الأصل العدم‏,‏ ويمكن المالك إقامة البينة‏.‏ والثاني‏:‏ تصديق المالك لأن الغالب السلامة بخلاف ما لو ادعى عيبا حادثا فإن الأظهر تصديق المالك‏;‏ لأن الأصل والغالب دوام السلامة والثاني الغاصب لأن الأصل براءة ذمته‏,‏ فهذه الصورة تعارض فيها أصلان‏,‏ واعتضد أحدهما بظاهر‏.‏

ونظير ذلك‏:‏ ما لو جنى على طرف‏,‏ وزعم نقصه‏,‏ فإنه إن ادعى عيبا خلقيا في عضو ظاهر صدق الجاني في الأظهر لأن الأصل العدم وبراءة الذمة‏.‏ والمالك يمكنه إقامة البينة‏,‏ وإن ادعى عيبا حادثا أو أصليا في عضو باطن فالأظهر‏:‏ تصديق المجني عليه‏;‏ لأن الأصل السلامة‏.‏

ومنها‏:‏ لو ادعى المالك أنه كان كاتبا صدق الغاصب لأن الأصل العدم‏,‏ وبراءة الذمة مما زاد‏.‏ والقول الثاني‏:‏ المالك لأن الغالب أن صفات العبد لا يعرفها إلا السيد‏.‏ ومنها‏:‏ لو قال‏:‏ هذا ولدي من جاريتي هذه‏,‏ لحقه عند الإمكان‏,‏ وهل يثبت كون الجارية أم ولد لأنه الظاهر أولا لاحتمال أن يكون استولدها بالزوجية‏؟‏ فيه قولان رجح الرافعي الثاني‏,‏ قال‏:‏ ولهما خروج على تقابل الأصل والظاهر‏.‏ ومنها‏:‏ لو قال الراهن للمرتهن لم تقبض العين المرهونة عن الرهن بل أعرتكها فالأصح أن القول قوله لأن الأصل عدم اللزوم وعدم الإذن في القبض وقيل‏:‏ قول المرتهن لأن الظاهر أنه قبضه عن الرهن‏.‏

ومنها‏:‏ جاء المتبايعان معا‏,‏ فقال أحدهما‏:‏ لم أفارقه‏,‏ فلي خيار المجلس‏,‏ فالقول قوله لأن الأصل عدم التفرق‏,‏ كذا أطلق الأصحاب قال الرافعي‏:‏ وهو بين إن قصرت المدة‏.‏ وأما إذا طالت فدوام الاجتماع خلاف الظاهر‏,‏ فلا يبعد تخريجه على تعارض الأصل والظاهر‏.‏ وتابعه ابن الرفعة‏.‏

ومنها‏:‏ طرح العصير في الدن‏,‏ وأحكم رأسه ثم حلف أنه لم يستحل خمرا‏,‏ ولم يفتح رأسه إلى مدة‏,‏ ولما فتح وجده خلا فوجهان أحدهما لا يحنث لأن الأصل عدم الاستحالة وعدم الحنث‏,‏ والثاني إن كان ظاهر الحال صيرورته خمرا وقت الحلف حنث وإلا فلا‏.‏

ومنها جرح المحرم صيدا وغاب ولم يعلم هل برئ أو مات‏؟‏ فالمذهب أن عليه ضمان ما نقص‏,‏ لأن الأصل براءة الذمة من الزائد‏,‏ وقيل‏:‏ عليه الجزاء كاملا‏,‏ لأنه قد صيره غير ممتنع‏,‏ والظاهر بقاؤه على هذه الحالة‏,‏ ولو غاب ووجده ميتا ولم يدر هل مات بجرحه أو بسبب آخر فهل يجب جزاء كامل‏,‏ أو ضمان الجرح فقط‏؟‏ قولان قال في الروضة‏:‏ أصحهما الثاني‏.‏

ونظيره في مسألة الظبية‏:‏ أن لا يرى الماء عقب البول‏,‏ بل تغيب ثم يجده متغيرا فإنه لا يحكم بأن التغير عن البول‏.‏

ونظيره أيضا‏:‏ لو جرح الصيد وغاب ثم وجده ميتا فإنه لا يحل في الأظهر‏.‏

ومنها‏:‏ لو رمى حصاة إلى المرمى وشك‏:‏ هل وقعت فيه أو لا‏؟‏ فقولان أصحهما لا يجزيه لأن الأصل عدم الوقوع فيه وبقاء الرمي عليه‏,‏ والثاني‏:‏ يجزيه لأن الظاهر وقوعها في المرمى‏.‏

الرابع‏:‏ ما ترجح فيه الظاهر على الأصل بأن كان سببا قويا منضبطا وفيه فروع‏:‏ منها‏:‏ من شك بعد الصلاة أو غيرها من العبادات‏,‏ في ترك ركن غير النية‏,‏ فالمشهور أنه لا يؤثر لأن الظاهر انقضاء العبادة على الصحة‏,‏ والثاني يقول‏:‏ الأصل عدم فعله‏,‏ ومثله‏:‏ ما لو قرأ الفاتحة ثم شك بعد الفراغ منها في حرف أو كلمة فلا أثر له‏.‏ نقله في شرح المهذب عن الجويني‏.‏

وكذا لو استجمر وشك‏:‏ هل استعمل حجرين أو ثلاثة كما في فتاوى البغوي قال الزركشي‏:‏ وقياسه كذلك فيما لو غسل النجس وشك بعد ذلك‏:‏ هل استوعبه‏؟‏

ومنها‏:‏ اختلف المتعاقدان في الصحة والفساد فالأصح تصديق مدعي الصحة‏;‏ لأن الظاهر جريان العقود بين المسلمين على قانون الشرع‏,‏ والثاني لا لقول الأصل عدمها‏.‏ ومنها‏:‏ لو جاء من قدام الإمام واقتدى وشك هل تقدم‏؟‏ فالأصح الصحة‏.‏ وقيل‏:‏ لا‏;‏ لأن الأصل عدم تأخره‏.‏

ومنها‏:‏ لو وكل بتزويج ابنته ثم مات الموكل ولم يعلم‏:‏ هل مات قبل العقد أو بعده‏؟‏ فالأصل عدم النكاح وصححه الروياني وقال القاضي حسين الأصح صحته لأن الظاهر بقاء الحياة‏.‏

ومنها‏:‏ لو ادعى الجاني رق المقتول صدق القريب في الأصح لأنه الظاهر‏.‏ الغالب ومنها‏:‏ شهد في واقعة وعدل ثم شهد في أخرى بعد زمان طويل فالأصح طلب تعديله ثانيا لأن طول الزمان يغير الأحوال‏,‏ والثاني‏:‏ لا لأن الأصل عدم التغيير‏.‏ ومنها‏:‏ إذا جومعت فقضت شهوتها ثم اغتسلت ثم خرج منها مني الرجل فالأصح وجوب إعادة الغسل‏,‏ لأن الظاهر خروج منيها معه‏,‏ والثاني لا‏;‏ لأن الأصل عدم خروجه‏.‏

ومنها‏:‏ قال المالك‏:‏ أجرتك الدابة‏,‏ وقال الراكب‏,‏ بل أعرتني‏,‏ ففي قول‏,‏ يصدق الراكب‏;‏ لأن الأصل براءة ذمته من الأجرة‏,‏ والأصح‏:‏ تصديق المالك‏,‏ إذا مضت مدة لمثلها أجرة‏,‏ والدابة باقية‏,‏ لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن فكذلك في صفته‏.‏

ومنها‏:‏ لو ألقاه في ماء أو نار‏,‏ فمات‏,‏ وقال الملقي‏:‏ كان يمكنه الخروج‏,‏ ففي‏,‏ قول يصدق‏;‏ لأن الأصل براءة ذمته‏,‏ والأصح عند النووي‏:‏ يصدق الولي لأن الظاهر أنه لو تمكن لخرج‏.‏

ومنها‏:‏ إذا رأت المرأة الدم لوقت يجوز أن يكون حيضا أمسكت عما تمسك عنه الحائض‏;‏ لأن الظاهر أنه حيض‏,‏ وقيل‏:‏ لا‏,‏ عملا بالأصل‏.‏

فصل في تعارض الأصلين

قال الإمام‏,‏ وليس المراد بتعارض الأصلين‏,‏ تقابلهما‏,‏ على وزن واحد في الترجيح فإن هذا كلام متناقض‏,‏ بل المراد التعارض‏,‏ بحيث يتخيل الناظر في ابتداء نظره لتساويهما فإذا حقق فكره رجح‏,‏ ثم تارة يجزم بأحد الأصلين وتارة يجري الخلاف ويرجح بما عضده من ظاهر أو غيره‏,‏ قال ابن الرفعة‏:‏ ولو كان في جهة أصل‏,‏ وفي جهة أصلان جزم لذي الأصلين‏.‏ ولم يجر الخلاف‏.‏

فمن فروع ذلك‏:‏

إذا ادعى العنين الوطء في المدة‏,‏ وهو سليم الذكر والأنثيين فالقول‏,‏ قوله قطعا‏,‏ مع أن الأصل عدم الوطء‏;‏ لأن الأصل بقاء النكاح‏.‏ واعتضد بظاهره أن سليم ذلك لا يكون عنينا في الغالب فلو كان خصيا‏,‏ أو مجبوبا جرى وجهان‏,‏ والأصح تصديقه أيضا‏;‏ لأن إقامة البينة على الوطء تعسر‏,‏ فكان الظاهر الرجوع إلى قوله فلو ثبتت بكارتها رجعنا إلى تصديقها قطعا‏;‏ لاعتضاد أحد الأصلين بظاهر قوي‏.‏

ومنها‏:‏ قالت‏:‏ سألتك الطلاق بعوض فطلقتني عليه متصلا فأنا منك بائن وقال بل يعد طول الفصل‏,‏ فلي الرجعة فالمصدق الزوج‏.‏ قال السبكي‏:‏ ولم يخرجوه على تقابل الأصلين‏.‏

ومنها‏:‏ قال‏:‏ بعتك الشجرة بعد التأبير فالثمرة لي‏,‏ وعاكسه المشتري صدق البائع لأن الأصل بقاء ملكه‏.‏ جزم به في الروضة‏.‏

ومنها‏:‏ اختلفا في ولد المبيعة فقال البائع‏:‏ وضعته قبل العقد‏.‏ وقال المشتري‏:‏ بل بعده قال الإمام‏:‏ كتب الحليمي إلى الشيخ أبي حامد يسأله عن ذلك‏؟‏ فأجاب‏:‏ بأن القول قول البائع‏;‏ لأن الأصل بقاء ملكه‏,‏ وحكى الدارمي في المصدق وجهين‏.‏

ومنها‏:‏ اختلف مع مكاتبته‏.‏ فقالت‏:‏ ولدته بعد الكتابة‏,‏ فمكاتب مثلي‏.‏ وقال السيد‏:‏ بل قبلها صدق السيد‏.‏ قاله البغوي والرافعي‏.‏ قالا‏:‏ ولو زوج أمته بعبده‏,‏ ثم باعها له‏,‏ فولدت وقد كاتبه وقال السيد‏:‏ ولدت قبل الكتابة‏,‏ فهو لي‏,‏ وقال المكاتب بل بعد الشراء فمكاتب صدق المكاتب‏,‏ وفرقا بأن المكاتب هنا يدعي ملك الولد لأن ولد أمته ملكه‏,‏ ويده مقرة على هذا الولد‏,‏ وهي تدل على الملك‏,‏ والمكاتب لا يدعي الملك‏,‏ بل ثبوت حكم الكتابة فيه‏.‏

ومنها‏:‏ لو وقع في الماء نجاسة وشك‏:‏ هل هو قلتان‏,‏ أو أقل‏؟‏ فوجهان‏:‏ أحدهما يتنجس‏,‏ وبه جزم صاحب الحاوي‏,‏ وآخرون لتحقق النجاسة‏.‏ والأصل عدم الكثرة‏.‏ والثاني‏:‏ لا‏,‏ وصوبه النووي لأن الأصل‏:‏ الطهارة‏,‏ وقد شككنا في نجاسة منجسه‏;‏ ولا يلزم من النجاسة التنجيس‏.‏ ورجح الشيخ زين الدين الكيناني مقالة صاحب الحاوي‏,‏ وتبعه البلقيني‏;‏ لأن النجاسة محققة‏,‏ وبلوغ القلتين شرط‏,‏ والأصل عدمه‏,‏ ولا يجوز الأخذ بالاستصحاب عند القائلين به‏,‏ إلا أن يقطع بوجود المنافي‏,‏ وأما السبكي فإنه رجح مقالة النووي‏.‏

وخرج ابن أبي الصيف على هذه المسألة فرعا‏,‏ وهو‏:‏ قلتان متغيرتان بنجاسة‏,‏ ثم غاب عنهما ثم عاد‏,‏ ولا تغير‏,‏ وشك في بقاء الكثرة‏,‏ فقال‏:‏ إن قلنا بالطهارة في الأولى فهنا أولى وإلا فوجهان‏;‏ لأن الأصل بقاء الكثرة‏,‏ ونازعه المحب الطبري‏,‏ فقال‏:‏ لا وجه للبناء‏,‏ ولا للخلاف لأن تلك تعارض فيها أصلان‏,‏ فنشأ قولان‏,‏ وهنا الأصل بقاء الكثرة بلا معارض‏.‏

ومنها‏:‏ لو شككنا فيما أصاب من دم البراغيث أقليل‏,‏ أم كثير‏؟‏ ففيه احتمالان للإمام‏;‏ لأن الأصل‏:‏ اجتناب النجاسة‏,‏ والأصل في هذه النجاسة العفو‏,‏ وهذه المسألة نظير ما قبلها‏,‏ وقد رجح في أصل الروضة‏:‏ أن له حكم القليل‏.‏

ومنها‏:‏ لو أدرك الإمام وهو راكع‏,‏ وشك هل فارق حد الركوع قبل ركوعه فقولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه مدرك‏,‏ لأن الأصل بقاء ركوعه‏,‏ والثاني‏:‏ لا‏;‏ لأن الأصل عدم الإدراك‏,‏ وهو الأصح‏.‏

ومنها‏:‏ لو نوى وشك هل كانت نيته قبل الفجر‏,‏ أو بعده‏؟‏ لم يصح صومه لأن الأصل عدم النية‏.‏ قال النووي‏:‏ ويحتمل أن يجيء فيه وجه‏;‏ لأن الأصل بقاء الليل‏,‏ كمن شك في إدراك الركوع‏.‏

ومنها‏:‏ لو أصدقها تعليم قرآن‏,‏ ووجدناها تحسنه فقال‏:‏ أنا علمتها وقالت‏:‏ بل غيره‏,‏ فقولان‏;‏ لأن الأصل بقاء الصداق وبراءة ذمته والأصح تصديقها‏.‏

ومنها‏:‏ إذا غاب العبد‏,‏ وانقطعت أخباره‏:‏ ففي قول‏:‏ تجب فطرته وهو الأصح لأن الأصل بقاء حياته‏,‏ وفي قول‏:‏ لا‏;‏ لأن الأصل براءة ذمة السيد ورجح الأول بأنه ثبت اشتغال ذمة السيد قبل غيبة العبد بفطرته‏,‏ فلا تزال إلا بيقين موته‏,‏ ويجري القولان في إجزاء عتقه عن الكفارة‏,‏ والأصح أنه لا تجزيه لأن الأصل اشتغال ذمته بالكفارة فلا تبرأ إلا بيقين ونظيره في إعمال كل من الأصلين في حالة ما إذا أدخل رجله الخف وأحدث قبل وصول القدم إلى مستقرها لا يجوز المسح ولو أخرجها إلى الساق ثم أدخلها‏,‏ لا يضر‏,‏ عملا بالأصل في الموضعين‏.‏

ولو أراد جماعة إنشاء قرية لا للسكن فأقيم بها الجمعة لم يجز‏,‏ ولو كانت قرية وانهدمت وأقام أهلها لبنائها وأقيم بها الجمعة صح عملا بالأصل في الموضعين‏,‏

ولو وجد لحما ملقى‏,‏ وشك هل هو ميتة‏,‏ أو مذكى‏؟‏ لا يحل أكله‏,‏ ولو لاقى شيئا لم ينجسه‏,‏ عملا بالأصل فيهما‏.‏

ومنها‏:‏ أذن المرتهن في البيع ورجع‏,‏ ثم ادعى الرجوع قبل البيع فوجهان‏;‏ لأن الأصل عدم البيع‏,‏ وعدم الرجوع‏,‏ والأصح تصديق المرتهن‏.‏

ومنها‏:‏ لو شك‏:‏ هل رضع في الحولين أم بعدهما‏,‏ فقولان لأن الأصل الحل وبقاء الحولين‏,‏ والأصح لا تحريم‏:‏

ولو شك‏:‏ هل رضع خمسا أو أقل‏,‏ فلا تحريم قطعا لعدم معارضة أصل الإباحة بأصل آخر‏.‏

ومنها‏:‏ باعه عصيرا وأقبضه ووجد خمرا‏,‏ فقال البائع تخمر عندك وقال المشتري بل عندك‏,‏ فالأصل عدم التخمر وعدم قبض الصحيح‏,‏ وصحح النووي تصديق البائع ترجيحا لأصل استمرار البيع‏,‏ ويجري القولان فيما لو كان رهنا مشروطا في بيع‏.‏

ومنها‏:‏ لو قبض المسلم فيه فجاء بمعيب وقال‏:‏ هذا الذي قبضته‏,‏ وأنكر المسلم إليه فالأصح‏:‏ تصديق المسلم لأن الأصل اشتغال ذمة المسلم إليه‏,‏ ولم يتيقن البراءة والثاني يصدق المسلم إليه لأن الأصل السلامة واستقرار العقد‏,‏ ولهذا يصدق البائع قطعا فيما لو جاء المشتري بمعيب‏,‏ وقال‏:‏ هذا المبيع‏,‏ لأنه لم يعارضه أصل اشتغال الذمة‏,‏ وفارق المسلم لأنهما اتفقا على قبض ما ورد عليه الشراء وتنازعا في عيب الفسخ‏,‏ والأصل عدمه‏,‏ والثمن المعين كالبيع‏,‏ وفي الذمة فيه الوجهان في السلم‏.‏

ومنها‏:‏ لو رأى المبيع قبل العقد‏,‏ ثم قال البائع‏:‏ هو بحاله‏,‏ وقال المشتري‏:‏ بل تغير فوجهان‏,‏ أحدهما يصدق البائع‏;‏ لأن الأصل عدم التغيير‏,‏ والأصح المشتري لأن البائع يدعي عليه الاطلاع على المبيع على هذه الصفة والمشتري ينكر ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ إذا سلم الدار المستأجرة ثم ادعى المستأجر أنها غصبت‏,‏ فالأصح أن القول قول المكري‏;‏ لأن الأصل عدم الغصب ووجه الآخر أن الأصل عدم الانتفاع‏,‏ لكن اعتضد الأول بأنه بعد التسليم بقي الأصل‏:‏ وجوب الأجرة عليه إلى أن يتبين ما يسقطها‏.‏

ومنها‏:‏ لو أعطاه ثوبا ليخيطه فخاطه قباء وقال‏:‏ أمرتني بقطعه قباء‏,‏ فقال‏:‏ بل قميصا فالأظهر تصديق المالك لأن الأصل عدم الإذن في ذلك‏,‏ والثاني المستأجر‏;‏ لأن الأصل براءة ذمته‏,‏ والظاهر‏:‏ أنه لا يتجاوز إذنه‏.‏

ومنها‏:‏ قد ملفوفا وزعم موته‏,‏ ففي قول يصدق القاد لأن الأصل براءة ذمته والأصح يصدق الولي‏;‏ لأن الأصل بقاء الحياة‏.‏

ومنها‏:‏ لو زعم الولي سراية والجاني سببا آخر‏,‏ فالأصح تصديق الولي لأن الأصل عدم السبب‏.‏ والثاني الجاني لأن الأصل براءة الذمة‏.‏

ولو عكس بأن قطع يديه ورجليه‏,‏ وزعم الولي سببا آخر‏,‏ والجاني سراية فالأصح تصديق الولي‏;‏ لأن الأصل بقاء الديتين الواجبتين‏,‏ والثاني‏:‏ الجاني‏,‏ لأن الأصل براءة ذمته‏.‏

ومنها‏:‏ لو قلع سن صغير ومات قبل العود فقيل‏:‏ يجب الأرش‏;‏ لأن الجناية قد تحققت‏,‏ والأصل عدم العود‏,‏ والأصح‏:‏ لا‏,‏ لأن الأصل براءة الذمة‏,‏ والظاهر أنه لو عاش لعادت‏.‏

ومنها‏:‏ ادعى أحد الزوجين التفويض والآخر التسمية‏,‏ فالأصل عدم التسمية من جانب وعدم التفويض من جانب‏,‏ كذا في أصل الروضة‏.‏ قال البلقيني‏:‏ لم يبين فيه الحكم وكأنه أحاله على ما إذا اختلفا في عقدين فإن كلا يحلف على نفي دعوى الآخر‏.‏

ومنها‏:‏ إذا قال‏:‏ كان له علي كذا‏,‏ ففي كونه مقرا به خلاف‏;‏ لأن الأصل الاستمرار والأصل براءة الذمة‏,‏ والأصح أنه ليس بإقرار‏.‏

ومنها‏:‏ اطلعنا على كافر في دارنا فقال‏:‏ دخلت بأمان مسلم‏,‏ ففي مطالبته بالبينة وجهان لأن الأصل عدم الأمان‏,‏ ويعضده‏:‏ أن الغالب على من يستأمن الاستئناس بالإشهاد‏,‏ والأصل حقن الدماء‏,‏ ويعضده‏:‏ أن الظاهر أن الحربي لا يقدم على هذا إلا بأمان وهذا هو الأصح‏.‏

ومنها‏:‏ لو شهد عليه بكلمة الكفر فادعى الإكراه‏,‏ فليجدد الإسلام فإن قتله مبادرا قبل التجديد‏,‏ ففي الضمان وجهان‏.‏ قال في الوسيط‏:‏ مأخوذان من تقابل الأصلين‏:‏ عدم الإكراه وبراءة الذمة‏.‏

ومنها‏:‏ طار طائر فقال‏,‏ إن لم أصد هذا الطائر اليوم فأنت طالق‏,‏ ثم اصطاد ذلك اليوم طائرا وجهل‏:‏ هل هو ذلك أو غيره‏,‏ ففي وقوع الطلاق تردد لتعارض أصلين‏:‏ بقاء النكاح‏,‏ وعدم اصطياده‏,‏ ورجح النووي من زوائده عدم الوقوع‏.‏

ومنها‏:‏ زاد المقتص في الموضحة وقال‏:‏ حصلت الزيادة باضطراب الجاني وأنكر

ففي المصدق وجهان في الروضة بلا ترجيح‏,‏ لأن الأصل براءة الذمة وعدم الاضطراب‏:‏ قال ابن الرفعة‏:‏ وينبغي القطع بتصديق المشجوج‏,‏ يعني وهو المقتص لأنه وجد في حقه أصلان‏:‏ براءة الذمة وعدم الارتعاش‏,‏ ولم يوجد في حق الآخر إلا أصل واحد‏,‏ بل والظاهر أيضا أن من مسه آلة القصاص يتحرك بالطبع‏.‏

ومنها‏:‏ ضربها الزوج وادعى نشوزها‏,‏ وادعت هي أن الضرب ظلم‏,‏ فقد تعارض أصلان‏:‏ عدم ظلمه‏,‏ وعدم نشوزها‏,‏ قال ابن الرفعة‏:‏ لم أر فيها نقلا‏.‏ قال‏:‏ والذي يقوى في ظني أن القول قوله‏;‏ لأن الشارع جعله وليا في ذلك‏.‏

تذنيب‏:‏

لهم أيضا تعارض الظاهرين ومن أمثلته‏:‏ إذا أقرت بالنكاح وصدقها المقر له بالزوجية‏,‏ فالجديد قبول الإقرار لأن الظاهر صدقهما فيما تصادقا عليه‏,‏ والقديم إن كانا بلديين طولبا بالبينة‏,‏ لمعارضة هذا الظاهر بظاهر آخر‏,‏ وهو أن البلديين يعرف حالهما غالبا‏,‏ ويسهل عليهما إقامة البينة‏.‏

فوائد نختم بها الكلام على هذه القاعدة

الأولى‏:‏ قال ابن القاص في التلخيص لا يزال حكم اليقين بالشك إلا في إحدى عشرة مسألة‏:‏

إحداها‏:‏ شك ماسح الخف هل انقضت المدة أم لا‏؟‏

الثانية‏:‏ شك هل مسح في الحضر أو السفر‏,‏ ويحكم في المسألتين بانقضاء المدة‏.‏

الثالثة‏:‏ إذا أحرم المسافر بنية القصر خلف من لا يدري‏:‏ أمسافر هو‏,‏ أم مقيم‏؟‏ لم يجز القصر‏.‏

الرابعة‏:‏ بال حيوان في ماء كثير ثم وجده متغيرا ولم يدر‏,‏ أتغير بالبول أم بغيره فهو نجس‏.‏

الخامسة‏:‏ المستحاضة المتحيرة‏,‏ يلزمها الغسل عند كل صلاة‏,‏ يشك في انقطاع الدم قبلها‏.‏

السادسة‏:‏ من أصابته نجاسة في ثوبه أو بدنه وجهل موضعها يجب غسله كله‏.‏

السابعة‏:‏ شك مسافر أوصل بلده أم لا‏؟‏ لا يجوز له الترخص‏.‏

الثامنة‏:‏ شك مسافر هل نوى الإقامة أم لا‏؟‏ لا يجوز له الترخص

التاسعة‏:‏ المستحاضة وسلس البول إذا توضأ ثم شك‏:‏ هل انقطع حدثه أم لا‏؟‏ فصلى بطهارته لم تصح صلاته‏.‏

العاشرة‏:‏ تيمم‏,‏ ثم رأى شيئا لا يدري‏:‏ أسراب هو‏,‏ أم ماء بطل تيممه‏,‏ وإن بان سرابا

الحادية عشرة‏,‏ رمى صيدا فجرحه‏,‏ ثم غاب فوجده ميتا‏,‏ وشك هل أصابته رمية أخرى من حجر أو غيره لم يحل أكله‏,‏ وكذا لو أرسل عليه كلبا‏.‏

هذا ما ذكره ابن القاص‏.‏ وقد نازعه القفال وغيره في استثنائها بأنه لم يترك اليقين فيها بالشك‏,‏ وإنما عمل فيها بالأصل الذي لم يتحقق شرط العدول عنه‏;‏ لأن الأصل في الأولى والثانية غسل الرجلين‏.‏ وشرط المسح‏:‏ بقاء المدة وشككنا فيه‏,‏ فعمل بأصل الغسل‏,‏ وفي الثالثة والسابعة والثامنة القصر رخصة بشرط‏,‏ فإذا لم يتحقق رجع إلى الأصل‏,‏ وهو الإتمام‏;‏ وفي الخامسة الأصل وجوب الصلاة‏,‏ فإذا شكت في الانقطاع فصلت بلا غسل‏,‏ لم تتيقن البراءة منها‏.‏ وفي السادسة‏:‏ الأصل أنه ممنوع من الصلاة إلا بطهارة عن هذه النجاسة‏,‏ فلما لم يغسل الجميع فهو شاك في زوال منعه من الصلاة‏,‏ وفي العاشرة‏:‏ إنما بطل التيمم لأنه توجه الطلب عليه‏,‏ وفي الحادية عشرة في حل الصيد قولان‏,‏ فإن قلنا لا يحل فليس ترك يقين بشك لأن الأصل التحريم‏,‏ وقد شككنا في الإباحة‏,‏ وقد نقل النووي ذلك في شرح المهذب وقال ما قاله القفال فيه نظر‏.‏ والصواب في أكثر هذه المسائل مع ابن القاص‏.‏

قال‏:‏ وقد استثنى إمام الحرمين أيضا والغزالي ما إذا شك الناس في انقضاء وقت الجمعة فإنهم لا يصلون الجمعة‏,‏ وإن كان الأصل بقاء الوقت‏.‏

قال‏:‏ ومما يستثنى‏:‏ إذا توضأ وشك‏,‏ هل مسح رأسه أم لا‏؟‏ وفيه وجهان الأصح صحة وضوئه‏,‏ ولا يقال الأصل عدم المسح‏.‏

ومثله لو سلم من صلاته‏,‏ وشك هل صلى ثلاثا أو أربعا‏؟‏‏,‏ والأظهر أن صلاته مضت على الصحة‏.‏ قال‏:‏ فإن تكلف متكلف‏,‏ وقال‏:‏ المسألتان داخلتان في القاعدة‏,‏ فإنه شك هل ترك أو لا‏,‏ والأصل عدمه‏,‏ فليس بشيء لأن الترك عدم باق على ما كان عليه‏,‏ وإنما المشكوك فيه الفعل‏,‏ والأصل عدمه ولم يعمل بالأصل‏.‏

قال‏:‏ وأما إذا سلم من صلاته فرأى عليه نجاسة‏,‏ واحتمل وقوعها في الصلاة وحدوثها بعدها‏,‏ فلا تلزمه إعادة الصلاة بل مضت على الصحة‏,‏ فيحتمل أن يقال الأصل عدم النجاسة فلا يحتاج إلى استثنائها لدخولها في القاعدة‏,‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ تحقق النجاسة وشك في انعقاد الصلاة‏;‏ والأصل عدمه‏,‏ وبقاؤها في الذمة‏,‏ فيحتاج إلى استثنائها‏.‏ انتهى كلام النووي‏,‏ وزاد ابن السبكي في نظائره صورا أخرى‏:‏

منها‏:‏ إذا جاء من قدام الإمام واقتدى به وشك هل هو متقدم عليه‏؟‏‏,‏ فالصحيح في التحقيق وشرح المهذب أنه تصح صلاته‏.‏ فهذا ترك أصل من غير معارض‏,‏ ولذلك رجح ابن الرفعة مقابله‏:‏ أنه لا يصح عملا بالأصل السالم عن المعارض‏,‏ ولو كان جاء من خلف الإمام صحت‏,‏ قطعا‏;‏ لأن الأصل عدم تقديمه‏.‏

وفي نظير هذه المسألة لو صلى وشك‏,‏ هل تقدم على الإمام بالتكبير أو لا‏؟‏‏,‏ لا تصح صلاته‏,‏ وفرق بأن الصحة في التقديم أكثر وقوعا‏,‏ فإنها تصح في صورتين‏:‏ التأخير والمساواة‏,‏ وتبطل في التقدم خاصة‏,‏ والصحة في التكبير أقل وقوعا‏,‏ فإنها تبطل بالمقارنة والتقدم‏,‏ وتصح في صورة واحدة‏,‏ وهي التأخر‏.‏

ومنها‏:‏ من له كفان عاملتان أو غير عاملتين‏,‏ فبأيهما مس انتقض وضوءه مع الشك في أنها أصلية أو زائدة‏,‏ والزائدة لا تنقض‏,‏ ولهذا لو كانت إحداهما عاملة فقط انتقض بها وحدها على الصحيح‏.‏

ومنها‏:‏ إذا ادعى الغاصب تلف المغصوب صدق بيمينه على الصحيح وإلا لتخلد الحبس عليه إذا كان صادقا وعجز عن البينة‏,‏ والثاني يصدق المالك‏;‏ لأن الأصل البقاء‏.‏ وزاد الزركشي في قواعده صورا أخرى‏.‏

منها‏:‏ مسألة الهرة‏,‏ فإن الأصل نجاسة فمها‏,‏ فترك‏;‏ لاحتمال ولوغها في ماء كثير وهو شك‏.‏

ومنها‏:‏ من رأى منيا في ثوبه أو فراشه الذي لا ينام فيه غيره ولم يذكر احتلاما‏,‏ لزمه الغسل في الأصح‏,‏ مع أن الأصل عدمه‏.‏

ومنها‏:‏ من شك بعد صوم يوم من الكفارة‏,‏ هل نوى‏؟‏ لم يؤثر على الصحيح مع أن الأصل عدم النية‏.‏

ومنها‏:‏ من عليه فائتة شك في قضائها لا يلزمه‏,‏ مع أن الأصل بقاؤها‏.‏ ذكره الشيخ عز الدين في مختصر النهاية‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏

قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني‏:‏ الشك على ثلاثة أضرب‏,‏ شك طرأ على أصل حرام‏,‏ وشك طرأ على أصل مباح‏,‏ وشك لا يعرف أصله‏.‏

فالأول‏:‏ مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحل حتى يعلم أنها ذكاة مسلم لأنها أصلها حرام‏,‏ وشككنا في الذكاة المبيحة‏,‏ فلو كان الغالب فيها المسلمون جاز الأكل عملا بالغالب المفيد للظهور‏.‏

 والثاني‏:‏ أن يجد ماء متغيرا‏,‏ واحتمل تغيره بنجاسة‏,‏ أو بطول المكث يجوز التطهر به عملا بالغالب عملا بأصل الطهارة‏.‏

والثالث‏:‏ مثل معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق أن المأخوذ من ماله عين الحرام فلا تحرم مبايعته لإمكان الحلال وعدم تحقق التحريم‏,‏ ولكن يكره خوفا من الوقوع في الحرام‏.‏ انتهى‏.‏

الثالثة‏:‏ قال النووي‏:‏ اعلم أن مراد أصحابنا بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والعتق والطلاق وغيرها‏:‏ هو التردد بين وجود الشيء وعدمه‏,‏ سواء كان الطرفان في التردد سواء أو أحدهما راجحا فهذا معناه في استعمال الفقهاء وكتب الفقه‏.‏

أما أصحاب الأصول‏:‏ فإنهم فرقوا بين ذلك وقالوا‏:‏ التردد إن كان على السواء فهو شك‏,‏ وإن كان أحدهما راجحا فالراجح ظن والمرجوح وهم‏.‏

ووقع للرافعي‏:‏ أنه فرق بينهما في الحدث فقال‏:‏ إنه يرفع بظن الطهر‏,‏ لا بالشك فيه وتبعه في الحاوي الصغير وقيل‏:‏ إنه غلط معدود من أفراده قال ابن الرفعة‏:‏ لم أره لغيره قال في المهمات‏:‏ وفي الشامل إنما قلنا بنقض الوضوء بالنوم مضطجعا‏;‏ لأن الظاهر خروج الحدث فصدق أن يقال‏:‏ رفعنا يقين الطهارة بظن الحدث بخلاف عكسه فكأن الرافعي أراد ما ذكره ابن الصباغ فانعكس عليه ولمجلي احتمال فيما إذا ظن الحدث بأسباب عارضة في تخريجه على قولي الأصل والغالب‏.‏

قال الزركشي‏:‏ وما زعمه النووي من أنه في سائر الأبواب لا فرق فيه بين المساوي والراجح يرد عليه أنهم فرقوا في مواضع كثيرة‏.‏

منها‏:‏ في الإيلاء لو قيد بمستبعد الحصول في الأربعة‏,‏ كنزول عيسى فمؤول‏,‏ وإن ظن حصوله قبلها فلا‏,‏ وإن شك فوجهان‏.‏

ومنها‏:‏ شك في المذبوح‏,‏ هل فيه حياة مستقرة‏,‏ حرم للشك في المبيح‏.‏ وإن غلب على ظنه بقاؤها حل‏.‏

ومنها‏:‏ في الأكل من مال الغير إذا غلب على ظنه الرضا جاز‏,‏ وإن شك فلا‏.‏

ومنها‏:‏ وجوب ركوب البحر في الحج إذا غلبت السلامة وإن شك فلا‏.‏

ومنها‏:‏ المرض إذا غلب على ظنه كونه مخوفا‏,‏ نفذ التصرف من الثلث وإن شككنا في كونه مخوفا لم ينفذ إلا بقول أهل الخبرة‏.‏

ومنها‏:‏ قال الرافعي في كتاب الاعتكاف‏:‏ قولهم‏:‏ ‏"‏لا يقع الطلاق بالشك‏"‏ مسلم لكنه يقع بالظن الغالب انتهى‏.‏

ويشهد له لو قال‏:‏ إن كنت حاملا فأنت طالق فإذا مضت ثلاثة أقراء من وقت التعليق وقع الطلاق‏,‏ مع أن الأقراء لا تفيد إلا الظن ولهذا أيد الإمام احتمالا بعدم الوقوع‏.‏

الرابعة يعبر عن الأصل في جميع ما تقدم بالاستصحاب‏,‏ وهو استصحاب الماضي في الحاضر وأما استصحاب الحاضر في الماضي فهو الاستصحاب المقلوب‏.‏

قال الشيخ تقي الدين السبكي‏:‏ ولم يقل به الأصحاب إلا في مسألة واحدة وهو ما إذا اشترى شيئا فادعاه مدع وانتزعه منه بحجة مطلقة‏,‏ فإنهم أطبقوا على ثبوت الرجوع له على البائع‏,‏ بل لو باع المشتري أو وهب‏,‏ وانتزع من المشتري منه أو الموهوب له كان للمشتري الأول الرجوع أيضا‏,‏ فهذا استصحاب الحال في الماضي فإن البينة لا تنشئ الملك ولكن تظهره‏,‏ والملك سابق على إقامتها‏,‏ لا بد من تقدير زمان لطيف له‏,‏ ويحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا‏,‏ وهو عدم الانتقال عنه فيما مضى‏.‏ قال ابنه تاج الدين‏:‏ وقيل به أيضا على وجه ضعيف فيما إذا وجدنا ركازا‏,‏ ولم ندر هل هو جاهلي أو إسلامي أنه يحكم بأنه جاهلي ولو كان المغصوب باقيا‏,‏ وهو أعور مثلا فقال الغاصب‏:‏ هكذا غصبته فالقول قول الغاصب صرح به الشيخ أبو حامد وغيره فهذا استصحاب مقلوب‏.‏

ونظيره لو قال المالك‏:‏ كان طعامي جديدا‏,‏ وقال الغاصب عتيقا فالمصدق الغاصب‏.‏

القاعدة الثالثة‏:‏ المشقة‏:‏ تجلب التيسير

الأصل في هذه القاعدة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بعثت بالحنيفية السمحة‏"‏ أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر بن عبد الله‏,‏ ومن حديث أبي أمامة والديلمي‏,‏ وفي مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها‏.‏

وأخرج أحمد في مسنده والطبراني والبزار وغيرهما عن ابن عباس قال قيل‏:‏ يا رسول الله‏,‏ أي الأديان أحب إلى الله‏,‏ قال‏:‏ ‏"‏الحنيفية السمحة‏"‏ وأخرجه البزار من وجه آخر بلفظ‏:‏ ‏"‏أي الإسلام‏"‏‏.‏

وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة‏"‏‏.‏ وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة وغيره‏:‏ ‏"‏إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين‏"‏ وحديث‏:‏ ‏"‏يسروا ولا تعسروا‏"‏‏.‏ وروى أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا‏:‏ ‏"‏إن دين الله يسر – ثلاثا‏"‏‏.‏ وروى أيضا من حديث الأعرابي بسند صحيح‏:‏ ‏"‏إن خير دينكم أيسره‏,‏ إن خير دينكم أيسره‏"‏‏.‏

وروى ابن مردويه من حديث محجن بن الأدرع مرفوعا‏:‏ ‏"‏إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر‏"‏‏.‏ وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين‏,‏ إلا اختار أيسرهما‏,‏ ما لم يكن إثما‏"‏‏.‏ وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا‏:‏ ‏"‏إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا‏"‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته‏.‏ واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة‏:‏

الأول‏:‏ السفر‏.‏

قال النووي‏:‏ ورخصه ثمانية‏.‏

منها‏:‏ ما يختص بالطويل قطعا وهو القصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة‏.‏

ومنها‏:‏ ما لا يختص به قطعا‏,‏ وهو ترك الجمعة وأكل الميتة‏.‏

ومنها‏:‏ ما فيه خلاف‏,‏ والأصح اختصاصه به وهو الجمع‏.‏

ومنها‏:‏ ما فيه خلاف‏,‏ والأصح عدم اختصاصه به‏,‏ وهو التنفل على الدابة وإسقاط الفرض بالتيمم‏.‏ واستدرك ابن الوكيل رخصة تاسعة‏,‏ صرح بها الغزالي وهي‏:‏

ما إذا كان له نسوة وأراد السفر‏,‏ فإنه يقرع بينهن‏.‏ ويأخذ من خرجت لها القرعة‏,‏ ولا يلزمه القضاء لضراتها إذا رجع‏.‏ وهل يختص ذلك بالطويل‏؟‏ وجهان‏,‏ أصحهما‏:‏ لا‏.‏

الثاني‏:‏ المرض‏.‏ ورخصه كثيرة‏,‏ التيمم عند مشقة استعمال الماء‏,‏ وعدم الكراهة في الاستعانة بمن يصب عليه أو يغسل أعضاءه‏,‏ والقعود في صلاة الفرض‏.‏ وخطبة الجمعة والاضطجاع في الصلاة‏,‏ والإيماء والجمع بين الصلاتين على وجه اختاره النووي والسبكي والأسنوي والبلقيني‏,‏ ونقل عن النص‏,‏ وصح فيه الحديث وهو المختار‏,‏ والتخلف عن الجماعة والجمعة مع حصول الفضيلة كما تقدم‏,‏ والفطر في رمضان وترك الصوم للشيخ الهرم مع الفدية‏,‏ والانتقال من الصوم إلى الإطعام في الكفارة‏,‏ والخروج من المعتكف وعدم قطع التتابع المشروط في الاعتكاف‏,‏ والاستنابة في الحج وفي رمي الجمار‏;‏ وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية‏,‏ والتحلل على وجه‏.‏ فإن شرطه فعلى المشهور‏,‏ والتداوي بالنجاسات وبالخمر على وجه‏,‏ وإساغة اللقمة بها إذا غص بالاتفاق‏,‏ وإباحة النظر حتى للعورة والسوأتين‏.‏

الثالث‏:‏ الإكراه‏.‏

الرابع‏:‏ النسيان

الخامس‏:‏ الجهل وسيأتي لها مباحث‏.‏

السادس‏:‏ العسر وعموم البلوى‏.‏ كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها‏,‏ كدم القروح والدمامل والبراغيث‏,‏ والقيح والصديد‏,‏ وقليل دم الأجنبي وطين الشارع‏,‏ وأثر نجاسة عسر زواله‏,‏ وذرق الطيور إذا عم في المساجد والمطاف وما يصيب الحب في الدوس من روث البقر وبوله‏.‏

ومن ذلك العفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة‏,‏ وريق النائم‏,‏ وفم الهرة‏.‏

ومن ثم لا يتعدى إلى حيوان لا يعم اختلاطه بالناس كما قال الغزالي وأفواه الصبيان‏.‏

وغبار السرجين ونحوه وقليل الدخان أو الشعر النجس‏,‏ ومنفذ الحيوان‏.‏

ومن ثم لا يعفى عن منفذ الآدمي‏,‏ لإمكان صونه عن الماء ونحوه‏,‏ وروث ما نشؤه في الماء والمائع‏,‏ وما في جوف السمك الصغار على وجه اختاره الروياني‏.‏

ومن ذلك‏:‏ مشروعية الاستجمار بالحجر وإباحة الاستقبال والاستدبار في قضاء الحاجة في البنيان ومس المصحف للصبي المحدث‏.‏

ومن ثم لا يباح له إذا لم يكن متعلما كما نقله في المهمات عن مفهوم كلامهم‏,‏ وجواز المسح على العمامة لمشقة استيعاب الرأس‏,‏ ومسح الخف في الحضر لمشقة نزعه في كل وضوء ومن ثم وجب نزعه في الغسل لعدم تكرره‏.‏

وأنه لا يحكم على الماء بالاستعمال ما دام مترددا على العضو‏,‏ ولا يضره التغيير بالمكث والطين والطحلب وكل ما يعسر صونه عنه‏,‏ وإباحة الأفعال الكثيرة والاستدبار في صلاة شدة الخوف‏,‏ وإباحة النافلة على الدابة في السفر وفي الحضر على وجه‏,‏ وإباحة القعود فيهما مع القدرة‏,‏ وكذا الاضطجاع والإبراد بالظهر في شدة الحر‏.‏

ومن ثم لا إبراد بالجمعة لاستحباب التبكير إليها‏.‏

والجمع في المطر وترك الجماعة والجمعة بالأعذار المعروفة وعدم وجوب قضاء الصلاة على الحائض لتكررها بخلاف الصوم وبخلاف المستحاضة لندرة ذلك‏,‏ وأكل الميتة ومال الغير مع ضمان البدل إذا اضطر‏,‏ وأكل الولي من مال اليتيم بقدر أجرة عمله إذا احتاج وجواز تقديم نية الصوم على أوله‏,‏ ونية صوم النفل بالنهار‏,‏ وإباحة التحلل من الحج بالإحصار والفوات‏,‏ ولبس الحرير للحكة والقتال وبيع نحو الرمان والبيض في قشرة والموصوف في الذمة وهو السلم‏,‏ مع النهي عن بيع الغرر‏,‏ والاكتفاء برؤية ظاهر الصبرة وأنموذج المتماثل‏,‏ وبارز الدار عن أسها‏.‏ ومشروعية الخيار لما كان البيع يقع غالبا من غير ترو ويحصل فيه الندم فيشق على العاقد‏,‏ فسهل الشارع ذلك عليه بجواز الفسخ في مجلسه وشرع له أيضا شرطه ثلاثة أيام‏,‏ ومشروعية الرد بالعيب‏;‏ والتحالف‏,‏ والإقالة والحوالة‏,‏ والرهن‏,‏ والضمان والإبراء‏,‏ والقرض‏,‏ والشركة‏,‏ والصلح‏,‏ والحجر‏,‏ والوكالة‏,‏ والإجارة‏,‏ والمساقاة‏,‏ والمزارعة‏,‏ والقراض‏,‏ والعارية‏,‏ الوديعة للمشقة العظيمة في أن كل أحد لا ينتفع إلا بما هو ملكه‏,‏ ولا يستوفي إلا ممن عليه حقه‏,‏ ولا يأخذه إلا بكماله‏,‏ ولا يتعاطى أموره إلا بنفسه‏;‏ فسهل الأمر بإباحة الانتفاع بملك الغير‏,‏ بطريق الإجارة أو الإعارة أو القراض‏,‏ وبالاستعانة بالغير وكالة‏,‏ وإيداعا‏,‏ وشركة وقراضا ومساقاة‏,‏ وبالاستيفاء من غير المديون حوالة‏,‏ وبالتوثق على الدين برهن وضامن وكفيل وحجر‏,‏ وبإسقاط بعض الدين صلحا‏,‏ أو كله إبراء‏.‏

ومن التخفيف‏:‏ جواز العقود الجائزة‏;‏ لأن لزومها يشق‏,‏ ويكون سببا لعدم تعاطيها ولزوم اللازم‏,‏ وإلا لم يستقر بيع ولا غيره‏.‏

ومنه‏:‏ إباحة النظر عند الخطبة‏,‏ وللتعليم‏,‏ والإشهاد والمعاملة والمعالجة وللسيد‏.‏

ومنه‏:‏ جواز العقد على المنكوحة من غير نظر‏,‏ لما في اشتراطه من المشقة التي لا يحتملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم من نظر كل خاطب فناسب التيسير لعدم اشتراطه بخلاف المبيع فإن اشتراط الرؤية فيه لا يفضي إلى عسر ومشقة‏.‏

ومنه‏:‏ إباحة أربع نسوة فلم يقتصر على واحدة تيسيرا على الرجال وعلى النساء أيضا لكثرتهن ولم يزد على أربع لما فيه من المشقة على الزوجين في القسم وغيره‏.‏

ومنه‏:‏ مشروعية الطلاق‏,‏ لما في البقاء على الزوجية من المشقة عند التنافر‏,‏ وكذا مشروعية الخلع والافتداء والفسخ بالعيب ونحوه‏,‏ والرجعة في العدة لما كان الطلاق يقع غالبا بغتة في الخصام والجرح ويشق عليه التزامه فشرعت له الرجعة في تطليقتين‏:‏ ولم تشرع دائما لما فيه من المشقة على الزوجة إذا قصد إضرارها بالرجعة والطلاق كما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ‏.‏

ومنه‏:‏ مشروعية الإجبار على الوطء أو الطلاق في المولي‏.‏

ومنه‏:‏ مشروعية الكفارة في الظهار واليمين تيسيرا على المكلفين لما في التزام موجب ذلك من المشقة عند الندم‏.‏

وكذا مشروعية التخيير في كفارة اليمين لتكرره بخلاف كفارة الظهار والقتل والجماع لندرة وقوعها‏;‏ ولأن المقصود الزجر عنها‏.‏

ومشروعية التخيير في نذر اللجاج‏:‏ بين ما التزم والكفارة لما في الالتزام بالنذور لجاجا من المشقة‏.‏

ومنه‏:‏ مشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيرا على هذه الأمة على الجاني والمجني عليه‏,‏ وكان في شرع موسى صلى الله عليه وآله القصاص متحتما ولا دية‏.‏

وفي شرع عيسى عليه السلام الدية ولا قصاص‏.‏

ومنه‏:‏ مشروعية الكتابة‏,‏ ليتخلص العبد من دوام الرق لما فيه من العسر‏,‏ فيرغب السيد الذي لا يسمح بالعتق مجانا‏,‏ بما يبذل له من النجوم‏.‏

ومنه‏:‏ مشروعية الوصية عند الموت ليتدارك الإنسان ما فرط منه في حال الحياة وفسح له في الثلث دون ما زاد عليه دفعا لضرر الورثة‏,‏ فحصل التيسير ودفع المشقة في الجانبين ومنه‏:‏ إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظن ولو كلفوا الأخذ باليقين لشق وعسر الوصول إليه‏.‏

فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه‏.‏

السبب السابع‏:‏ النقص

فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال‏,‏ فناسبه التخفيف في التكليفات‏.‏

فمن ذلك‏:‏ عدم تكليف الصبي‏,‏ والمجنون‏,‏ وعدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال‏:‏ كالجماعة‏,‏ والجمعة‏,‏ والجهاد والجزية‏,‏ وتحمل العقل‏,‏ وغير ذلك وإباحة لبس الحرير‏,‏ وحل الذهب‏,‏ وعدم تكليف الأرقاء بكثير‏,‏ مما على الأحرار‏,‏ ككونه على النصف من الحر في الحدود والعدد وغير ذلك مما سيأتي في الكتاب الرابع‏.‏

وهذه فوائد مهمة نختم بها الكلام على هذه القاعدة‏.‏

الأولى‏:‏ في ضبط المشاق المقتضية للتخفيف‏.‏

المشاق على قسمين‏:‏ مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبا‏,‏ كمشقة البرد في الوضوء‏,‏ والغسل‏.‏ ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار ومشقة السفر‏,‏ التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها‏.‏ ومشقة ألم الحدود‏,‏ ورجم الزناة‏,‏ وقتل الجناة‏,‏ فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات‏.‏

ومن استثنى من ذلك جواز التيمم للخوف من شدة البرد فلم يصب لأن المراد أن يخاف من شدة البرد حصول مرض من الأمراض التي تبيح التيمم‏,‏ وهذا أمر ينفك عنه الاغتسال في الغالب‏,‏ أما ألم البرد الذي لا يخاف معه المرض المذكور‏,‏ فلا يبيح التيمم بحال وهو الذي لا يبيح الانتقال إلى التيمم‏.‏

وأما المشقة التي لا تنفك عنها العبادات غالبا‏,‏ فعلى مراتب‏:‏

الأولى‏:‏ مشقة عظيمة فادحة‏:‏ كمشقة الخوف على النفوس‏,‏ والأطراف ومنافع الأعضاء فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعا لأن حفظ النفوس‏,‏ والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة‏,‏ أو عبادات يفوت بها أمثالها‏.‏ الثانية‏:‏ مشقة خفيفة لا وقع لها كأدنى وجع في إصبع‏,‏ وأدنى صداع في الرأس‏,‏ أو سوء مزاج خفيف‏,‏ فهذه لا أثر لها‏,‏ ولا التفات إليها‏;‏ لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها‏.‏

الثالثة‏:‏ متوسطة بين هاتين المرتبتين‏.‏ فما دنا من المرتبة العليا‏,‏ أوجب التخفيف‏,‏ أو من الدنيا‏,‏ لم يوجبه كحمى خفيفة ووجع الضرس اليسير‏,‏ وما تردد في إلحاقه بأيهما اختلف فيه ولا ضبط لهذه المراتب‏,‏ إلا بالتقرب‏.‏

وقد أشار الشيخ عز الدين إلى أن الأولى في ضبط مشاق العبادات‏:‏ أن تضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تخفيف تلك العبادة فإن كانت مثلها‏,‏ أو أزيد‏,‏ ثبتت الرخصة‏,‏ ولذلك اعتبر في مشقة المرض المبيح للفطر في الصوم‏:‏ أن يكون كزيادة مشقة الصوم في السفر عليه في الحضر وفي إباحة محظورات الإحرام‏:‏ أن يحصل بتركها‏,‏ مثل مشقة القمل الوارد فيه الرخصة‏.‏

وأما أصل الحج‏,‏ فلا يكتفى في تركه بذلك‏,‏ بل لا بد من مشقة لا يحتمل مثلها‏,‏ كالخوف على النفس‏,‏ والمال وعدم الزاد والراحلة‏.‏

وفي إباحة ترك القيام إلى القعود‏:‏ أن يحصل به ما يشوش الخشوع‏,‏ وإلى الاضطجاع أشق لأنه مناف لتعظيم العبادات بخلاف القعود‏,‏ فإنه مباح بلا عذر كما في التشهد فلم يشترط فيه العجز بالكلية‏.‏ وكذلك اكتفى في إباحة النظر إلى الوجه والكفين بأصل الحاجة‏,‏ واشترط في سائر الأعضاء تأكدها‏.‏ وضبطه الإمام بالقدر الذي يجوز الانتقال معه إلى التيمم‏,‏ واشترط في السوأتين مزيد التأكيد‏,‏ وضبطه الغزالي بما لا يعد التكشف بسببه هتكا للمروءة‏,‏ ويعذر فيه في العادة‏.‏

تنبيه‏:‏

من المشكل على هذا الضابط‏:‏ التيمم‏.‏ فإنهم اشترطوا في المرض المبيح له‏:‏ أن يخاف معه تلف نفس‏,‏ أو عضو‏,‏ أو منفعة‏,‏ أو حدوث مرض مخوف‏,‏ أو بطء البرء‏,‏ أو شين فاحش في عضو ظاهر‏,‏ ومشقة السفر دون ذلك بكثير‏.‏

قال العلائي‏:‏ ولعل الفارق بين السفر والمرض‏:‏ أن المقصود أن لا ينقطع المسافر عن رفقته‏,‏ ولا يحصل له ما يعوق عليه التقلب في السفر بالمعايش‏,‏ فاغتفر فيه أخف مما يلحق المريض‏.‏ أشار إلى ذلك إمام الحرمين‏.‏

وأشكل من هذا‏:‏ أنهم لم يوجبوا شراء الماء بزيادة يسيرة على ثمن المثل‏,‏ وجوزوا التيمم‏,‏ ومنعوه فيما إذا خاف شيئا فاحشا في عضو باطن مع أن ضرره أشد من ضرر بذل الزيادة اليسيرة جدا‏,‏ خصوصا إذا كان رقيقا‏,‏ فإنه ينقص بذلك قيمته أضعاف قدر الزيادة المذكورة‏,‏ وقد استشكله الشيخ عز الدين وغيره ولا جواب عنه‏.‏

تنبيه‏:‏

ضبط في الروضة‏,‏ وأصلها‏,‏ نقلا عن الأصحاب‏:‏ المرض المبيح للفطر‏,‏ ولأكل الميتة‏:‏ بالمبيح للتيمم‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏

قال الشيخ عز الدين‏:‏ تخفيفات الشرع ستة أنواع‏:‏

الأول‏:‏ تخفيف إسقاط‏,‏ كإسقاط الجمعة والحج‏,‏ والعمرة‏,‏ والجهاد بالأعذار‏.‏

الثاني‏:‏ تخفيف تنقيص‏,‏ كالقصر‏.‏

الثالث‏:‏ تخفيف إبدال‏,‏ كإبدال الوضوء‏,‏ والغسل بالتيمم‏,‏ والقيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع‏,‏ أو الإيماء‏,‏ والصيام بالإطعام‏.‏

الرابع‏:‏ تخفيف تقديم‏,‏ كالجمع‏,‏ وتقديم الزكاة على الحول‏,‏ وزكاة الفطر في رمضان‏,‏ والكفارة على الحنث‏.‏

الخامس‏:‏ تخفيف تأخير‏,‏ كالجمع‏,‏ وتأخير رمضان للمريض والمسافر‏;‏ وتأخير الصلاة في حق مشتغل بإنقاذ غريق‏,‏ أو نحوه من الأعذار الآتية‏:‏

السادس‏:‏ تخفيف ترخيص‏,‏ كصلاة المستجمر‏,‏ مع بقية النجو‏,‏ وشرب الخمر للغصة‏,‏ وأكل النجاسة للتداوي‏,‏ ونحو ذلك‏.‏

واستدرك العلائي سابعا‏,‏ وهو‏:‏ تخفيف تغيير‏,‏ كتغير نظم الصلاة في الخوف‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏

الرخص أقسام‏:‏

ما يجب فعلها‏,‏ كأكل الميتة للمضطر‏,‏ والفطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش وإن كان مقيما صحيحا‏,‏ وإساغة الغصة بالخمر‏.‏

وما يندب كالقصر في السفر والفطر لمن يشق عليه الصوم في سفر‏,‏ أو مرض‏,‏ والإبراد بالظهر‏,‏ والنظر إلى المخطوبة‏.‏

وما يباح‏,‏ كالسلم‏.‏

وما الأولى تركها‏:‏ كالمسح على الخف‏,‏ والجمع والفطر لمن لا يتضرر‏,‏ والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل‏,‏ وهو قادر عليه‏.‏

وما يكره فعلها‏,‏ كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل‏.‏

الفائدة الرابعة‏:‏

تعاطي سبب الرخصة‏,‏ لقصد الترخيص فقط‏,‏ هل يبيحه‏؟‏ فيه صور تقدمت في أواخر القاعدة الأولى‏.‏

الفائدة الخامسة‏:‏

بمعنى هذه القاعدة‏:‏ قول الشافعي رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ إذا ضاق الأمر اتسع ‏)‏ وقد أجاب بها في ثلاثة مواضع‏:‏

أحدها‏:‏ فيما إذا فقدت المرأة وليها في سفر‏,‏ فولت أمرها رجلا يجوز‏.‏

قال يونس بن عبد الأعلى‏:‏ قلت له‏:‏ كيف هذا‏؟‏ قال‏:‏ إذا ضاق الأمر اتسع‏.‏

الثاني‏:‏ في أواني الخزف المعمولة بالسرجين‏؟‏ أيجوز الوضوء منها‏؟‏ فقال‏:‏ إذ ضاق الأمر اتسع حكاه في البحر‏.‏

الثالث‏:‏ حكى بعض شراح المختصر أن الشافعي‏,‏ سئل عن الذباب يجلس على غائط ثم يقع على الثوب فقال‏:‏ إن كان في طيرانه ما يجف فيه رجلاه وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع‏.‏

ولهم عكس هذه القاعدة‏:‏ إذا اتسع الأمر ضاق‏.‏

قال ابن أبي هريرة في تعليقه‏:‏ وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت وإذا اتسعت ضاقت‏.‏

ألا ترى أن قليل العمل في الصلاة لما اضطر إليه سومح به وكثيره لما لم يكن به حاجة لم يسامح به‏.‏ وكذلك قليل البراغيث وكثيره‏.‏

وجمع الغزالي في الإحياء بين القاعدتين بقوله‏:‏ كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده‏.‏

ونظير هاتين القاعدتين في التعاكس قولهم‏:‏ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء‏.‏ وقولهم‏:‏ يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام وسيأتي ذكر فروعها‏.‏

القاعدة الرابعة‏:‏ الضرر يزال‏.‏

أصلها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا ضرر ولا ضرار‏"‏‏.‏

أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلا وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني‏,‏ ومن حديث أبي سعيد الخدري وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت‏.‏

 اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من أبواب الفقه‏.‏

من ذلك‏:‏ الرد بالعيب‏,‏ وجميع أنواع الخيار‏:‏ من اختلاف الوصف المشروط‏,‏ والتعزير‏,‏ وإفلاس المشتري‏,‏ وغير ذلك‏,‏ والحجر بأنواعه‏,‏ والشفعة‏,‏ لأنها شرعت لدفع ضرر القسمة‏.‏ والقصاص‏,‏ والحدود‏,‏ والكفارات‏,‏ وضمان المتلف‏,‏ والقسمة‏,‏ ونصب الأئمة‏,‏ والقضاة‏,‏ ودفع الصائل‏,‏ وقتال المشركين‏,‏ والبغاة‏,‏ وفسخ النكاح بالعيوب‏,‏ أو الإعسار‏,‏ أو غير ذلك‏,‏ وهي مع القاعدة التي قبلها متحدة‏,‏ أو متداخلة‏.‏

ويتعلق بهذه القاعدة قواعد‏:‏

الأولى‏:‏ الضروريات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها‏.‏ ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة‏,‏ وإساغة اللقمة بالخمر‏,‏ والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه‏,‏ وكذا إتلاف المال‏,‏ وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه‏,‏ ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله‏,‏ ولو عم الحرام قطرا‏,‏ بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرا فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه‏,‏ ولا يقتصر على الضرورة‏.‏

قال الإمام‏:‏ ولا يرتقي إلى التبسط‏,‏ وأكل الملاذ بل يقتصر على قدر الحاجة‏.‏ قال ابن عبد السلام‏:‏ وفرض المسألة‏:‏ أن يتوقع معرفة صاحب المال في المستقبل‏.‏ فأما عند اليأس فالمال حينئذ للمصالح‏;‏ لأن من جملة أموال بيت المال‏:‏ ما جهل مالكه‏.‏ ويجوز إتلاف شجر الكفار وبنائهم لحاجة القتال‏,‏ والظفر بهم‏,‏ وكذا الحيوان الذي يقاتلون عليه‏,‏ ونبش الميت بعد دفنه للضرورة بأن دفن بلا غسل‏,‏ أو لغير القبلة أو في أرض أو ثوب مغصوب‏.‏ وغصب الخيط لخياطة جرح حيوان محترم‏.‏

وقولنا‏:‏ ‏"‏بشرط عدم نقصانها عنها‏"‏ ليخرج ما لو كان الميت نبيا فإنه لا يحل أكله للمضطر لأن حرمته أعظم في نظر الشرع من مهجة المضطر‏.‏ وما لو أكره على القتل أو الزنا‏,‏ فلا يباح واحد منهما بالإكراه لما فيهما من المفسدة التي تقابل حفظ مهجة المكره‏,‏ أو تزيد عليها‏.‏ وما لو دفن بلا تكفين فلا ينبش‏,‏ فإن مفسدة هتك حرمته أشد من عدم تكفينه الذي قام الستر بالتراب مقامه‏.‏

الثانية‏:‏ ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها‏.‏

ومن فروعه‏:‏

المضطر‏:‏ لا يأكل من الميتة‏,‏ إلا قدر سد الرمق ومن استشير في خاطب‏,‏ واكتفى بالتعريض كقوله‏:‏ لا يصلح لك‏.‏ لم يعدل إلى التصريح‏,‏ ويجوز أخذ نبات الحرم لعلف البهائم‏.‏ ولا يجوز أخذه لبيعه لمن يعلف‏.‏ والطعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة لأنه أبيح للضرورة‏,‏ فإذا وصل عمران الإسلام امتنع‏,‏ ومن معه بقية ردها‏.‏

ويعفى‏:‏ عن محل استجماره ولو حمل مستجمرا في الصلاة بطلت‏.‏ ويعفى عن الطحلب في الماء فلو أخذ ورق‏,‏ وطرح فيه وغيره ضر‏.‏ ويعفى عن ميت لا نفس له سائلة فإن طرح ضر‏.‏

ولو فصد أجنبي امرأة‏:‏ وجب أن تستر جميع ساعدها ولا يكشف إلا ما لا بد منه للفصد‏.‏

والجبيرة يجب أن لا تستر من الصحيح إلا ما لا بد منه للاستمساك‏.‏ والمجنون لا يجوز تزويجه أكثر من واحدة لاندفاع الحاجة بها‏.‏

وإذا قلنا‏:‏ يجوز تعدد الجمعة لعسر الاجتماع في مكان واحد لم يجز إلا بقدر ما يندفع فلو اندفع بجمعتين لم يجز بالثالثة‏,‏ صرح به الإمام وجزم به السبكي والأسنوي‏.‏

ومن جاز له اقتناء الكلب للصيد لم يجز له أن يقتني زيادة على القدر الذي يصطاد به‏,‏ صرح به بعضهم‏,‏ وخرجه في الخادم على هذه القاعدة‏.‏

تنبيه‏:‏

خرج عن هذا الأصل صور‏:‏

منها‏:‏ العرايا فإنها أبيحت للفقراء‏,‏ ثم جازت للأغنياء في الأصح‏.‏

ومنها‏:‏ الخلع‏,‏ فإنه أبيح مع المرأة على سبيل الرخصة‏,‏ ثم جاز مع الأجنبي‏.‏

ومنها‏:‏ اللعان جوز حيث تعسر إقامة البينة على زناها‏,‏ ثم جاز حيث يمكن على الأصح‏.‏

فائدة‏:‏

قال بعضهم‏:‏ المراتب خمسة‏:‏ ضرورة‏,‏ وحاجة‏,‏ ومنفعة‏,‏ وزينة‏,‏ وفضول‏.‏

فالضرورة‏:‏ بلوغه حدا إن لم يتناوله الممنوع هلك‏,‏ أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام‏.‏

والحاجة‏:‏ كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك غير أنه يكون في جهد ومشقة‏.‏ وهذا لا يبيح الحرام‏,‏ ويبيح الفطر في الصوم‏.‏

والمنفعة‏:‏ كالذي يشتهي خبز البر‏,‏ ولحم الغنم‏,‏ والطعام الدسم‏.‏

والزينة‏:‏ كالمشتهي الحلوى‏,‏ والسكر‏,‏ والثوب المنسوج من حرير‏,‏ وكتان‏.‏

والفضول‏:‏ التوسع بأكل الحرام‏,‏ والشبهة‏.‏

تذنيب

قريب من هذه القاعدة‏:‏ ما جاز لعذر بطل بزواله‏,‏ كالتيمم يبطل بوجود الماء قبل الدخول في الصلاة‏.‏ ونظيره‏:‏ الشهادة على الشهادة لمرض‏,‏ ونحوه يبطل إذا حضر الأصل عند الحاكم قبل الحكم‏.‏

الثالثة‏:‏ الضرر‏:‏ لا يزال بالضرر

قال ابن السبكي‏:‏ وهو كعائد يعود على قولهم‏:‏ ‏"‏الضرر يزال‏,‏ ولكن لا بضرر‏"‏ فشأنهما شأن الأخص مع الأعم بل هما سواء‏;‏ لأنه لو أزيل بالضرر لما صدق ‏"‏الضرر يزال‏"‏‏.‏

ومن فروع هذه القاعدة‏:‏

عدم وجوب العمارة على الشريك في الجديد‏,‏ وعدم إجبار الجار على وضع الجذوع‏,‏ وعدم إجبار السيد على نكاح العبد والأمة التي لا تحل له‏.‏

ولا يأكل المضطر طعام مضطر آخر‏,‏ إلا أن يكون نبيا‏,‏ فإنه يجوز له أخذه‏,‏ ويجب على من معه بذله له‏,‏ ولا قطع فلذة من فخذه‏,‏ ولا قتل ولده‏,‏ أو عبده‏,‏ ولا قطع فلذة من نفسه‏:‏ إن كان الخوف من القطع‏,‏ كالخوف من ترك الأكل‏,‏ أو أكثر‏,‏ وكذا قطع السلعة المخوفة‏.‏

ولو مال حائط إلى الشارع‏,‏ أو ملك غيره لم يجب إصلاحه‏.‏

ولو سقطت جرة‏,‏ ولم تندفع عنه إلا بكسرها ضمنها في الأصح‏.‏

ولو وقع دينار في محبرة‏,‏ ولم يخرج إلا بكسرها كسرت وعلى صاحبه الأرش‏,‏ فلو كان بفعل صاحب المحبرة فلا شيء‏,‏

ولو أدخلت بهيمة رأسها في قدر‏,‏ ولم يخرج إلا بكسرها‏,‏ فإن كان صاحبها معها‏,‏ فهو مفرط بترك الحفظ‏,‏ فإن كانت غير مأكولة كسرت القدر‏,‏ وعليه أرش النقص‏,‏ أو مأكولة‏,‏ ففي ذبحها وجهان‏.‏ وإن لم يكن معها‏,‏ فإن فرط صاحب القدر كسرت‏,‏ ولا أرش‏,‏ وإلا فله الأرش‏.‏

ولو التقت دابتان على شاهق‏,‏ ولم يمكن تخليص واحدة إلا بإتلاف الأخرى‏,‏ لم يفت واحد منهما‏,‏ بل من ألقى دابة صاحبه وخلص دابته ضمن‏.‏

ولو سقط على جريح‏,‏ فإن استمر قتله‏,‏ وإن انتقل قتل غيره‏,‏ فقيل‏:‏ يستمر لأن الضرر لا يزال بالضرر‏,‏ وقيل‏:‏ يتخير للاستواء‏.‏ وقال الإمام‏:‏ لا حكم فيه في هذه المسألة‏.‏

ولو كانت ضيقة الفرج لا يمكن وطؤها إلا بإفضائها‏,‏ فليس له الوطء‏.‏

ولو رهن المفلس المبيع‏,‏ أو غرس‏,‏ أو بنى فيه‏,‏ فليس للبائع الرجوع في صورة صحة الرهن‏.‏ لأن فيه إضرارا بالمرتهن‏,‏ ولا في صورة الغرس‏,‏ ويبقى الغرس والبناء للمفلس لأنه ينقص قيمتها‏,‏ ويضر بالمفلس والغرماء‏.‏

تنبيه‏:‏

قال ابن السبكي‏:‏ يستثنى من ذلك‏:‏ ما لو كان أحدهما أعظم ضررا‏.‏ وعبارة ابن الكتاني‏:‏ لا بد من النظر لأخفهما وأغلظهما‏:‏ ولهذا شرع القصاص‏,‏ والحدود‏,‏ وقتال البغاة‏,‏ وقاطع الطريق‏,‏ ودفع الصائل‏,‏ والشفعة والفسخ بعيب المبيع والنكاح‏,‏ والإعسار‏,‏ والإجبار على قضاء الديون‏,‏ والنفقة الواجبة‏,‏ ومسألة الظفر‏,‏ وأخذ المضطر طعام غيره‏,‏ وقتاله عليه‏,‏ وقطع شجرة الغير إذا حصلت في هواء داره‏;‏ وشق بطن الميت إذا بلع مالا‏,‏ أو كان في بطنها ولو ترجى حياته‏:‏ ورمي الكفار إذا تترسوا بنساء وصبيان‏,‏ أو بأسرى المسلمين‏.‏ ولو كان له عشر دار لا يصلح للسكنى‏,‏ والباقي لآخر‏,‏ وطلب صاحب الأكثر القسمة أجيب في الأصح‏,‏ وإن كان فيه ضرر شريكه‏.‏

ولو أحاط الكفار بالمسلمين‏,‏ ولا مقاومة بهم‏:‏ جاز دفع المال إليهم‏,‏ وكذا استنقاذ الأسرى منهم بالمال إذا لم يمكن بغيره‏;‏ لأن مفسدة بقائهم في أيديهم‏,‏ واصطلامهم للمسلمين أعظم من بذل المال‏.‏

والخلع في الحيض لا يحرم‏;‏ لأن إنقاذها منه مقدم على مفسدة تطويل العدة عليها‏,‏ ولو وقع في نار تحرقه‏,‏ ولم يخلص إلا بماء يغرقه‏;‏ ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات النار‏,‏ فله الانتقال إليه في الأصح‏.‏

ولو وجد المضطر ميتة وطعام غائب فالأصح أنه يأكل الميتة لأنها مباحة بالنص وطعام الغير بالاجتهاد‏.‏

أو المحرم ميتة وصيدا‏:‏ فالأصح كذلك‏.‏ لأنه يرتكب في الصيد محظورين‏:‏ القتل والأكل‏.‏

المبالغة في المضمضة والاستنشاق مسنونة‏.‏ وتكره للصائم‏.‏

تخليل الشعر سنة في الطهارة‏,‏ ويكره للمحرم‏.‏

وقد يراعى المصلحة‏,‏ لغلبتها على المفسدة‏.‏

من ذلك‏:‏ الصلاة‏,‏ مع اختلال شرط من شروطها من الطهارة‏,‏ والستر‏,‏ والاستقبال فإن في كل ذلك مفسدة‏;‏ لما فيه من الإخلال بجلال الله في أن لا يناجى إلا على أكمل الأحوال‏,‏ ومتى تعذر شيء من ذلك جازت الصلاة بدونه‏,‏ تقديما لمصلحة الصلاة على هذه المفسدة‏.‏

ومنه‏:‏ الكذب مفسدة محرمة ومتى تضمن جلب مصلحة تربو عليه جاز‏:‏ كالكذب للإصلاح بين الناس‏,‏ وعلى الزوجة لإصلاحها‏.‏

وهذا النوع راجع إلى ارتكاب أخف المفسدتين في الحقيقة‏.‏

القاعدة الخامسة‏:‏ الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة

من الأولى‏:‏ مشروعية الإجارة‏,‏ والجعالة‏,‏ والحوالة‏,‏ ونحوها‏,‏ جوزت على خلاف القياس لما في الأولى من ورود العقد على منافع معدومة‏,‏ وفي الثانية من الجهالة‏,‏ وفي الثالثة من بيع الدين بالدين لعموم الحاجة إلى ذلك‏,‏ والحاجة إذا عمت كانت كالضرورة‏.‏

ومنها‏:‏ ضمان الدرك‏,‏ جوز على خلاف القياس إذ البائع إذا باع ملك نفسه‏,‏ ليس ما أخذه من الثمن دينا عليه حتى يضمن‏.‏ لكن لاحتياج الناس إلى معاملة‏.‏ من لا يعرفونه ولا يؤمن خروج المبيع مستحقا‏.‏

ومنها‏:‏ مسألة الصلح وإباحة النظر‏,‏ للمعاملة‏,‏ ونحوها‏,‏ وغير ذلك‏.‏

ومن الثانية‏:‏ تضبيب الإناء بالفضة‏:‏ يجوز للحاجة ولا يعتبر العجز عن غير الفضة‏,‏ لأنه يبيح أصل الإناء من النقدين قطعا بل المراد الأغراض المتعلقة بالتضبيب سوى التزيين‏:‏ كإصلاح موضع الكسر والشد والتوثق‏.‏

ومنها‏:‏ الأكل من الغنيمة في دار الحرب‏,‏ جائز للحاجة ولا يشترط للآكل أن لا يكون معه غيره‏.‏

تنبيه‏:‏

من المشكل قول المنهاج‏:‏ ويباح النظر لتعليم‏,‏ مع قولهم في الصداق‏:‏ ولو أصدقها تعليم قرآن‏,‏ فطلق قبله‏,‏ تعذر تعليمه في الأصح‏.‏

وأجاب السبكي‏:‏ بأنه إنما تعذر‏;‏ لأن القرآن‏,‏ وإن أمكن تنصيفه من جهة الحروف‏,‏ والكلمات‏,‏ لكنه يختلف سهولة‏,‏ وصعوبة‏,‏ وتابعه في المهمات فقال‏:‏ لأن القيام بتعليم نصف مشاع‏,‏ لا يمكن‏.‏ والقول باستحقاق نصف معين‏:‏ تحكم لا دليل عليه ويؤدي إلى النزاع‏:‏ فإن السورة الواحدة مختلفة الآيات‏,‏ في الطول‏,‏ والقصر‏,‏ والصعوبة‏,‏ والسهولة‏,‏ فتعين البدل‏.‏

واعترض هذا الجواب‏:‏ بأنه خاص بالطلاق‏,‏ قبل الدخول‏,‏ وقد صرحوا بتعذر التعليم‏,‏ ولو طلق بعد الدخول والمستحق بعد الدخول‏:‏ تعليم الكل‏.‏

وأجاب الشيخ الإمام جلال الدين المحلي‏;‏ في شرح المنهاج‏:‏ بأن ما ذكره النووي من إباحة النظر للتعليم‏:‏ تفرد به‏,‏ وهو خاص بالأمرد‏;‏ لأنه لما حرم النظر إليه مطلقا‏,‏ ولو بلا شهوة‏,‏ استشعر أن يورد عليه أن الأمرد يحتاج إلى مخالطة الرجال للتعليم‏,‏ ويشق عليه الاحتجاب والتستر‏.‏ وما زال السلف‏,‏ والعلماء على مخالطة المرد ومجالستهم وتعليمهم فاستثني النظر للتعليم لذلك‏.‏

وأما المرأة‏:‏ فلا تحتاج إلى التعليم‏:‏ كاحتياج الأمرد‏.‏

وأما الواجبات‏:‏ فلا تعدم من يعلمها إياها‏:‏ من محرم أو زوج أو غيره من وراء حجاب‏.‏ وكان شيخنا قاضي القضاة‏:‏ شرف الدين المناوي يأبى هذا الجواب ويقول بعموم الإباحة للمرأة أيضا‏;‏ ويجيب عن مسألة الصداق‏:‏ بأن المطلقة امتدت إليها الأطماع‏,‏ فناسب أن لا يؤذن في النظر إليها‏,‏ بخلاف غيرها‏.‏

والتحقيق ما قاله الشيخ جلال الدين‏.‏

وقد أشار إلى نحو ما قاله السبكي‏,‏ فقال‏:‏ قد كشفت كتب المذهب‏;‏ فإنما يظهر منها جواز النظر للتعليم‏,‏ فيما يجب تعلمه وتعليمه‏;‏ كالفاتحة‏;‏ وما يتعين من الصنائع بشرط التعذر من وراء حجاب‏.‏ وأما غير ذلك‏;‏ فإن كلامهم يقتضي المنع ثم استشهد بالمذكور في الصداق‏.‏

القاعدة السادسة‏:‏ العادة محكمة‏.‏

قال القاضي‏:‏ أصلها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن‏"‏‏.‏

قال العلائي‏:‏ ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال‏,‏ وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفا عليه أخرجه أحمد في مسنده‏.‏

اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه‏,‏ في مسائل لا تعد كثرة‏.‏

فمن ذلك‏:‏ سن الحيض‏,‏ والبلوغ‏,‏ والإنزال‏,‏ وأقل الحيض‏,‏ والنفاس‏,‏ والطهر وغالبها وأكثرها‏,‏ وضابط القلة والكثرة في الضبة‏,‏ والأفعال المنافية للصلاة‏,‏ والنجاسات المعفو عن قليلها‏,‏ وطول الزمان وقصره في موالاة الوضوء‏,‏ في وجه والبناء على الصلاة في الجمع‏,‏ والخطبة‏,‏ والجمعة‏,‏ وبين الإيجاب والقبول‏,‏ والسلام ورده‏,‏ والتأخير المانع من الرد بالعيب‏,‏ وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول‏,‏ والأنهار المملوكة‏,‏ إقامة له مقام الإذن اللفظي‏,‏ وتناول الثمار الساقطة‏,‏ وفي إحراز المال المسروق‏,‏ وفي المعاطاة على ما اختاره النووي‏,‏ وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكاف في استئجار دابة للركوب‏,‏ والحبر‏,‏ والخيط‏,‏ والكحل على من جرت العادة بكونها عليه‏,‏ وفي الاستيلاء في الغصب‏,‏ وفي رد ظرف الهدية وعدمه‏,‏ وفي وزن أو كيل ما جهل حاله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع‏,‏ وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا‏,‏

ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك‏,‏ اعتبرت العادة في الأصح‏.‏

وفي صوم يوم الشك‏,‏ لمن له عادة‏,‏ وفي قبول القاضي الهدية ممن له عادة‏,‏ وفي القبض‏,‏ والإقباض‏,‏ ودخول الحمام‏,‏ ودور القضاة‏,‏ والولاة‏,‏ والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ‏,‏ وفي المسابقة‏,‏ والمناضلة إذا كانت للرماة عادة في مسافة تنزل المطلق عليها‏,‏ وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان‏,‏ ولم يجر بينهما شرط فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط‏.‏ وفي ألفاظ الواقف والموصي‏,‏ وفي الأيمان وسيأتي ذكر أمثلة من ذلك‏:‏

ويتعلق بهذه القاعدة مباحث‏:‏

‏[‏المبحث‏]‏الأول‏:‏ فيما تثبت به العادة

وفي ذلك فروع‏:‏

أحدها‏:‏ الحيض‏.‏ قال الإمام والغزالي وغيرهما‏:‏ العادة في باب الحيض‏,‏ أربعة أقسام‏:‏

أحدها‏:‏ ما تثبت فيه بمرة بلا خلاف وهو الاستحاضة لأنها علة مزمنة فإذا وقعت فالظاهر دوامها‏,‏ وسواء في ذلك المبتدئة‏,‏ والمعتادة‏,‏ والمتحيرة‏.‏

الثاني‏:‏ ما لا يثبت فيه بالمرة‏,‏ ولا بالمرات المتكررة‏,‏ بلا خلاف‏,‏ وهي المستحاضة إذا انقطع دمها فرأت يوما دما ويوما نقاء واستمر لها أدوار هكذا ثم أطبق الدم على لون واحد‏,‏ فإنه لا يلتقط لها قدر أيام الدم بلا خلاف‏,‏ وإن قلنا باللقط بل نحيضها بما كنا نجعله حيضا بالتلفيق‏,‏ وكذا لو ولدت مرارا ولم تر نفاسا ثم ولدت وأطبق الدم وجاوز ستين يوما فإن عدم النفاس لا يصير عادة لها‏,‏ بلا خلاف بل هذه مبتدأة في النفاس‏.‏

الثالث‏:‏ ما لا يثبت بمرة ولا بمرات‏,‏ على الأصح‏,‏ وهو التوقف عن الصلاة‏,‏ ونحوها بسبب تقطع الدم إذا كانت ترى يوما دماء ويوما نقاء‏.‏

الرابع‏:‏ ما يثبت بالثلاث وفي ثبوته بالمرة والمرتين خلاف‏,‏ والأصح الثبوت وهو قدر الحيض والطهر‏.‏ الثاني‏:‏ الجارحة في الصيد لا بد من تكرار يغلب على الظن أنه عادة‏,‏ ولا يكفي مرة واحدة قطعا‏,‏ وفي المرتين والثلاث خلاف‏.‏

الثالث‏:‏ القائف لا خلاف في اشتراط التكرار فيه‏,‏ وهل يكتفى بمرتين‏,‏ أو لا بد من ثلاث‏؟‏ وجهان رجح الشيخ أبو حامد وأصحابه اعتبار الثلاث‏.‏

وقال إمام الحرمين‏:‏ لا بد من تكرار يغلب على الظن به أنه عارف‏.‏

الرابع‏:‏ اختبار الصبي قبل البلوغ بالمماكسة‏,‏ قالوا‏:‏ يختبر مرتين‏,‏ فصاعدا‏,‏ حتى يغلب على الظن رشده‏.‏

الخامس‏:‏ عيوب البيع‏,‏ فالزنا يثبت الرد بمرة واحدة لأن تهمة الزنا لا تزول‏,‏ وإن تاب‏,‏ ولذلك لا يحد قاذفه والإباق كذلك‏.‏

قال القاضي حسين وغيره‏:‏ يكفي المرة الواحدة منه في يد البائع وإن لم يأبق في يد المشتري‏,‏ قال الرافعي‏:‏ والسرقة قريب من هذين‏.‏ وأما البول في الفراش فالأظهر اعتبار الاعتياد فيه‏.‏

السادس‏:‏ العادة في صوم الشك‏,‏ كما إذا كان له عادة بصوم يوم الاثنين أو الخميس فصادف يوم الشك أحدهما‏,‏ بماذا تثبت العادة‏؟‏

قال الشيخ تاج الدين السبكي‏:‏ لم أر فيه نقلا‏,‏ وقال الإمام في الخادم‏:‏ لم يتعرضوا لضابط العادة فيحتمل ثبوتها بمرة‏,‏ أو بقدر يعد في العرف متكررا‏.‏

السابع‏:‏ العادة في الإهداء للقاضي قبل الولاية‏.‏ قال ابن السبكي‏:‏ لم أر فيه نقلا بماذا تثبت به‏؟‏

قال‏:‏ وكلام الأصحاب يلوح بثبوتها بمرة واحدة‏.‏ ولذلك عبر الرافعي بقوله‏:‏ تعهد منه الهدية‏,‏ والعهد صادق بمرة‏.‏

الثامن‏:‏ العادة في تجديد الطهر لمن يتيقن طهرا وحدثا وكان قبلهما متطهرا‏,‏ فإنه يأخذ بالضد‏,‏ إن اعتاد التجديد‏,‏ وبالمثل إن لم يعتده‏.‏

لم يبينوا بم تثبت به العادة‏؟‏‏.‏ لكن ذكر السبكي في شرح المنهاج‏:‏ أن من ثبتت له عادة محققة‏,‏ كمن اعتاده فيأخذ بالضد‏.‏ وظاهر هذا الاكتفاء فيه بالمرة ونحوها‏.‏

التاسع‏:‏ إنما يستدل بحيض الخنثى وإمنائه على الأنوثة والذكورة بشرط التكرار ليتأكد الظن‏,‏ ويندفع توهم كونه اتفاقيا‏.‏ قال الأسنوي‏:‏ وجزم في التهذيب‏,‏ بأنه لا يكفي مرتان‏:‏ بل لا بد أن يصير عادة‏.‏ قال‏:‏ ونظير التحاقه بما قيل في كلب الصيد‏.‏